تركيا القريبة بالتاريخ البعيدة بالجغرافيا (16)

قررت من البداية تخصيص اليوم بكامله في “ديار بكر” للاستراحة والتجول في المدينة والاعتناء اكثر بدراجتي، استيقظت الساعة السادسة وقد بدات الحركة تدب في الحديقة من خلال تواجد هواة المشي والعدو فقمت بتفكيك خيمتي، العم الحسين لن يتاخر في المجيء لفتح مشربه، اخذت كيسا بلاستيكيا وقمت بجولة في الحديقة لجمع النفايات الى حين قدومه، الحديقة تمسح 14 هكتارا وبها ملاعب كرة قدم ومقاهي وفضاءات للاطفال وتحيط بها العمارات السكنية وبعض النزل، عندما قدم الرجل استغرب فعلي وذكرني انني ضيف مبجل وجمع القمامه مهمته هو وليس انا، بعد تنظيف محيط المشرب وفتحه أعد عم الحسين مائدة إفطار الصباح والمكون من خبز بلدي وجبنة مملحة من حليب الماعز وشرائح طماطم.

بعدها هيأ لي مكانا ضليلا وفراشا وثيرا لاستريح وطلب مني النوم قدر ما أشاء

لم استيقظ الا بعد ان اعلمني العم بالقيام لتناول الغداء، كان الطعام جيدا ومكونا من كبدة مشوية وباذنجان وطماطم مشوية وخبزا بلديا.
عم الحسين كردي في السبعينات من العمر، يحبه الجميع، بشوش وخدوم ولا يهدأ له بال، مهووس بالنظافة، يجمع القوارير البلاستيكية وعلب المشروبات الكرتونية وينظف المجموعة الصحية، اخاطبه دائما بالاشارة، طلبت منه ايقاظي عند العصر وكان الامر كذلك وارشدني الى اقرب محل لبيع لوازم الدراجات اتباعا لنصيحة صديق عزيز بتغيير الاطارات المطاطية للدراجة وفعلا اقتنيت كل الضروريات وعدت الى الحديقة لاتمام عملية الصيانة، تجمع حولي البعض من الصبية، فتيان وفتيات، مرة يسالونني عن رحلتي ومرة استعين بهم لمسك الدراجة وهي مفككة حتى لا تسقط

ابهرني جمال خلقهم واخلاقهم، صغارا وكبارا، اكراد تركيا ابهروني رغم كل ما يقال ويشاع عنهم، فالحقيقة على الارض وليست في الافتراضي، اتممت صيانة الدراجة واصبحت قادرة ان شاء الله وجاهزة لاتمام بقية الرحلة، عم الحسين اعطاني مفتاح المشرب ووضع تحت تصرفي قاعة الاستحمام فاصبحت استحم مرتين في اليوم بعد ان كنت استحم مرة في الاسبوع، حمدت الله كثيرا فاينما حللت لم اقابل الا عم الحسين وأمثاله، قمة في البشاشة والكرم وحسن الاستقبال دون طمع او جشع أو استغلال، مدينة ديار بكر تعادل مدينة تونس العاصمة حجما او أكبر واتمنى ان تكون يوما ما عاصمتنا نظيفة وجميلة مثلها، عندما كنت اجهز خيمتي للنوم، قدمت الي الطفلة اليف نور التي ساعدتني في صيانة الدراجة مصحوبة باختها الكبرى التي كانت تحمل عشائي طالبة مني عدم التحرج في ذكر ما ينقصني حتى لو كان مالا فسوف يوفرونه لي ثم تمنت لي رحلة موفقة، الصغيرة اليف تحلم بان تشتغل طبيبة نفسية عندما تكبر ومن كل قلبي تمنيت لها التوفيق والنجاح وقد اراها يوما ما طبيبة مشهورة تعم شهرتها افاق العالم ، هؤلاء اكراد تركيا، فعلا اعجز عن وصفهم و وصف اخلاقهم، اردته يوما للراحة واسترجاع قواي فكانت لي فرصة للاحتكاك اكثر بالناس والحمد لله أن عرفني بمثل هؤلاء.

لاحظت شيئا غريبا في تركيا وهو انك لو وجدت حطبا مكدسا قرب محل وستجد ذلك حتى في المدن الكبرى فهو اما مطعم أو مخبزة أو مصنع صغير لصنع المرطبات، فكل الافران تستعمل الحطب.

عند توديعه، احتضنني عم الحسين بقوة وتمنى لي طريق السلامة، نزلت دموعي رغما عني، احببت هؤلاء الناس لطيبتهم ورفعة اخلاقهم وتعاملهم الراقي معي بكل لطف وادب جم رغم اني لا اعرفهم ولا يعرفوني وقد لا التقيهم يوما آخر، اطعموني وآووني وحرسوني ووثقوا بي كأني فردا منهم، لن أنساهم مطلقا وسابقى اتذكر نبل صنيعهم راجيا من الله ان يجمعنا لقاء يوما ما فمن يدري فقد يسهل الله لي العودة يوما ما اليهم او تأتي الاقدار باحدهم الي في تونس.

عند الثامنة صباحا، انطلقت بعد راحة نفسية وبدنية تامة استعدت فيها قوتي وعزيمتي لمواصلة الرحلة، الخروج من ديار بكر ذات المليوني ساكن وقت الذروة يتطلب صبرا كبيرا توازيا مع زحمة المرور، الطريق شرقا نحو Van كان منبسطا في مجمله ويشبه طبيعة تونس حيث تنتشر مزارع و حقول على مد البصر مزروعة قطنا وذرة في أغلبها.
حاليا موسم حصاد الذرة، جمعها ونقلها وتخزينها، لازمتني هذه المشاهد طيلة الطريق وعلى طول عشرات الكيلومترات، تركيا دولة فلاحية بالاساس و قوة اقتصادية اقليمية. كل القرى و المدن التي مررت بها تنشط انشطة مرتبطة في اغلبها بالفلاحة والزراعات الكبرى، بيع و صنع الجرارات، الحاصدات، المجرورات، صيانتها وكرائها مع الات وتقنيات الري.

اغلب الشعارات العالمية لديها فروعا هنا لتسويق منتوجاتها، حركة اقتصادية كبيرة بمناسبة موسم الحصاد، الطريق نشيط والحركة لا تهدأ، المدن متلاصقة، الطقس جميل وليس شديد الحرارة كالايام السابقة. للحبوب أسواق يبيع فيها الفلاح منتوجة جملة للتجار مثل سوق الزيتون لدينا في تونس.

تعرض ايضا افران الخبز البلدي الكردي فتصنع الافران وتترك لتجف ويمكن شرائها على عين المكان

اعجبني مجسم جميل جدا يوجد قرب المطار لراع مع اغنامه فالتقطت له هذه الصورة

استغربت غلاء زيت الذرة رغم أن تركيا منتج كبير لها ولديها الاكتفاء الذاتي منها ولكن ثمن اللتر الواحد 6.300 دينارات تونسية. وجدت منتج “دانات” التركية فتذوقتها لاقارنها بالتونسية فوجدت التونسية ممتازة جدا مقارنة بها، من طرائف هذا اليوم عثوري على محل خردة واستعجبت من التسمية “خرداجي”، بناءاتهم تحتوي طابقا علويا مغطى من فوق ومفتوح الجوانب، يستعمل لتجفيف الخضراوات والغلال او النوم اثناء القيلولة صيفا ولحفلات الزفاف والرقص في المناسبات السعيدة

كالعادة كانت لي استراحة بين الظهر والعصر للتوقي من حرارة الشمس وللغداء والصلاة، كان الغداء رائعا ومكونا من دجاج مشوي على الطريقة الكردية

تواجدت العديد من نقاط التفتيش العسكرية مع آلياتها وتحليق جوي لطائرات بدون طيار نسمع طنينها ولا نراها وهذا طبيعي باعتبار وجود المنطقة قرب حدود ثلاث دول، ايران وسوريا والعراق، تحدثت مع استاذ من اكراد تركيا يتقن العربية فقال لي: “نحن لا نطلب الانفصال عن تركيا فهي بلدنا، به ولدنا وبه نعيش، فقط نريد الاعتراف بنا والسماح لنا بتدريس لغتنا لابنائنا فنكون مثل الجزائر والمغرب، اهل القبائل لهم اذاعتهم وتلفزيونهم وصحفهم، صحيح نتكلم اللغة الكردية فيما بيننا لكن الدولة لا تعترف بها بالرغم من عددنا الذي يفوق 25 مليون كردي، الجيل الجديد ومع مرور الوقت سينسى اللغة الكردية وهذا ما تطمح اليه السلطة المركزية” .
قبل مدينة Batman بعشر كيلومترات اعترضتني أول محطة بنزين ففضلت التوقف والمبيت بها، اريد دخول المدينة صباحا للقيام بصرف العملة من اليورو الى الليرة لاكمال الايام المتبقية من وجودي في تركيا، نمت بعمق لاستيقظ فجر يوم جديد من رحلة مميزة.

يتبع …
بقلم
سمير بن يعقوب
دراج رحالة تونسي ، اضافة الى زيارة كل المناطق التونسية عبر كل الجزائر والمغرب والاردن ومصر وتركيا وإيران.
ينشر كل نشاطه على صفحته بالفايس بوك.

كل اجزاء رحلة تركيا:
1  –  2  –  3  –  4  –  5  –  6  –  7  –  8  –  9  –  10  –  11  –  12  –  13  –  14  –  15  –  16  –  17  –  18  –  19  –  20

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.