تركيا القريبة بالتاريخ البعيدة بالجغرافيا (14)

قمت باكرا وتناولت افطارا سريعا مما بقي في حقيبتي وانطلقت مع الساعة السابعة لأدشن اليوم الثامن والعشرين من رحلتي، كان برنامجي الوصول الى غازي عنتاب تاسع اكبر مدينة ومحافظة في تركيا، الـ 25 كم الاولى من الطريق كانت سهلة وتواجدت الكثير من القرى الصغيرة على جانبيه، على الجوانب انتشر بائعو البصل المعروف باكياسه الحمراء البلاستيكية حيث ياتي التجار من جميع المحافظات لشرائه.

السير لم يكن مقلقا فالحركة كانت متوسطة مع انخفاض كبير لحركة الشاحنات الثقيلة، مررت بعدة مدن كـ koksalan ,aktoprak ، خلال حديثي مع الناس باستعمال تطبيقة الترجمة من العربية الى التركية لاحظت أنهم ينسخون النص المترجم من التركية لترجمته الى الكردية مما يعني دخولي منطقة يتواجد فيها السكان الاكراد بشكل اكبر من التركمان، استراحتي للغداء والقيلولة كانت في محطة بنزين satirhuyuk وبها قمت باصلاح ثقب في العجلة الامامية . في الطريق كانت لي وقفات مع عدد من تجار البصل المنتصبين على الطريق وكالعادة كان الشاي حاضرا مع الاسئلة الفضولية المعتادة.

غمرني الناس بكرمهم ولطفهم ودعواتهم المتكررة لي لشرب الشاي برفقتهم وكنت سعيدا بالتقاط بعض الصور التذكارية عربون محبة انسانية جمعني بهم الطريق.
وصلت اطراف غازي عنتاب بعد المغرب، قمت بجولة صغيرة فيها فهي مدينة كبيرة وعدد سكانها يفوق المليونين، بها عدة مناطق خصراء لكن الجميع نصحني بعدم المبيت فيها لكثرة “الحشاشين” من الشباب، محطات البنزين في وسط المدينة صغيرة وليس بها فضاءات للتخييم ولكن الخروج من المدينة والمبيت في اطرافها سيرهقني اكثر، اعجبني اقتراح احدهم بالمبيت في فناء احد المساجد و كان الامر كذالك بعد صلاة العشاء، اعجبني مجسما لقافلة تجارية فالتقطت له صورة.

عنتاب او غازي عنتاب كانت من الاقاليم الشمالية لسورية حيث تبعد عن حلب مسافة لا تفوق 96 كم وضمتها تركيا اليها بموجب معاهدة انقرة بين فرنسا وتركيا سنة 1920 وبعد عام اقر البرلمان التركي اضافة اسم غازي فاصبحت غازي عنتاب، تشتهر هذه المدينة بصناعة اجود انواع “البقلاوة” في العالم و بزراعة الفستق والتبغ وصناعة السجاد، خلال تجوالي في المدينة ودخول ازقتها لاحظت وجود جالية سورية محترمة فيها واغلبها مكونة من اللاجئين السوريين لقرب المدينة من الحدود. غازي عنتاب بثقلها التاريخي وكثرة قلاعها وحصونها وجودة منتوجاتها الزراعية تستحق المكوث فيها لاكثر من يوم لكن لدي التزامات اخرى تحتم علي مواصلة الطريق نحو الحدود الايرانية.
قمت باكرا على صوت آذان الفجر، اديت صلاتي ورجعت لخيمتي لكتابة ملخص الرحلة اليومي، انتصب بجانب المسجد بائع متجول للمجات الخفيفة مع طاولاته وكراسيه الصغيرة، سرعان ما التف به الناس يطلبون لمجات مختلفة وعرفت وقتها أنه معروف لديهم وينتصب دائما في نفس المكان. اقتنيت افطاري من عنده وجلست مع القوم اتناوله استعدادا لمسيرة اليوم.

انطلقت في اتجاه “ديار بكر” وتنطق هنا “ديار بقر”، كان الطريق في اغلبه سهلا الا الخمسة كيلومترات الاولى فقد كانت دفعا متواصلا للدراجة، انطلاقا من غازي عنتاب دخلت منطقة اكراد تركيا، اللغة تغيرت لكن البشاشة والترحاب وحسن المعاملة بقيت كما هي بل أحسن من المدن الكبرى، كل المنطقة معروفة بزراعة الفستق حيث تنتشر حقول كبيرة مع وجود حقول اخرى عائلية بها اشجار معمرة واخرى حديثة ، وضعوا مجسما لشجرة الفستق تعبيرا عن الاهتمام بها، الفستق يجمع خلال مرحلتين: الأولى وهي التي اشاهدها الان حيث يجنون الفستق المعد للصناعة وهو بجودة متوسطة والثانية بعد اشهر حيث يجنون النوعية الممتازة و الاكثر مردودية، وحدات تجميع وتحويل الفستق تنتشر على اليمين وعلى اليسار ضمن حركة اقتصادية موسمية هامة بالنسبة للجهة

كما تنتصب بالجهة معاصر كبيرة لزيت عباد الشمس وتحتوي خزانات معدنية دائرية كالتي نراها في محطات تكرير النفط وفضولا مني استأذن وادخلها والتقط صورا توثيقية لكل ما يعترضني.
وصلت مدينة birchik بـعد 40 كيلومترا من المسير

عند اشتداد الحرارة دخلت احدى محطات البنزين للاستراحة فتفاجأت بمن يكلمني بالعربية ويدعوني للجلوس والراحة لاعرف انه سوري من حلب والتي تبعد عن هذا المكان 35 كم فقط، قدم لي طبقا يحتوي عنبا وتينا وكأسا من الشاي وقارورة ماء بارد وكل مرة يعود ليسألني إن كنت أحتاج شيئا، بشاشة واخلاق عالية للاخوة السوريين الذين طالما حذروني من التعامل معهم ووجدتهم ارقى الناس اخلاقا وتعاملا، صديقي السوري اخبرني ان الجميع ينتظر نتيجة انتخابات الصائفة المقبلة فكثير من الاحزاب تدعو الى طرد السوريين من تركيا وتحملهم مسؤولية لتدهور الاقتصادي للبلد.
واصلت طريقي وعبرت عدة قرى هنا وهناك الى ان حل الظلام ، لاحت لي من بعيد محطة بنزين واسعة وتحتوي فضاءات عائلية فقررت المبيت داخلها

وجدت من العامل بها كل الترحاب بل تجول معي داخلها ليريني كل مرافقها ثم ادخلني المطبخ وقال لي “الشاي على ذمتك”، ثم اراني هدية ليست موجودة في بقية المحطات، قاعة استحمام مزودة بالماء الساخن، ولكم تخيل فرحة دراج رحالة بعد ايام من التعب في طقس صيفي، استحممت، غسلت ادباشي، نصبت خيمتي ثم قضيت بقية السهرة معه ليعطيني فكرة ضافية عن المنطقة ومده ايضا بملخص رحلتي. للشاي مكانة كبيرة في حياة التركي لدرجة اني وجدت انية للشاي الساخن موضوعة على ذمة العموم.

لديهم اهتمام كبيرا بالمساحات الخضراء وباخضرار الديكور الداخلي ولك تخيل ذلك وانت تشاهد مكان مبيتي

في يومي الثلاثين، انطلقت من محطة البنزين بعد شكري صديقي السوري اسماعيل العامل بها والذي كان مثالا رائعا في الرقي ورفعة الاخلاق، أول الطريق كان صعودا متعبا ولقرابة خمسة كيلومترات كنت أدفع دراجتي، بدأت الجبال بعد ذلك تختفي لتظهر السهول واشجار الفستق في كل مكان مع زراعات جديدة تمثلت في القطن والمزروعات العلفية، البنية التحتية من طرقات وانارة ونقل عمومي بدأت تتغير مقارنة بمدن الشمال، بدأت اشهد قرى ببناء فوضوي مع انعدام المرافق الضرورية كالماء والكهرباء فحاليا وصلت لعمق الريف الكردي، الغلال كانت متوفرة على الطريق لعابري السبيل مثلي، “كل حتى تشبع واشكر الله واحمده ثم واصل طريقك”، كرم الشعب التركي كان كبيرا معي وتعودت بدعوات الناس من حولي، هم لطفاء بشكل أخاذ وبشوشين جدا، كثيرة هي المرات التي يتوقف فيها فلاح بقربي ويدعوني لأخذ ما أشاء من خيرات أرضه.
عند الساعة الواحدة، اشتدت الحرارة فقصدت محطة بنزين وهي كذلك مركز القرية حيث يتمركز الجميع حولها، الحلاق والجزار وغيرهما، حال وصولي، تجمع حولي الاطفال يحدوهم الفضول الكبير، فهذا يريد تجربة دراجتي والاخر يريد معرفة سعر هاتفي وكلهم لا يتكلمون سوى الكردية، قدم الي شاب سوري لما علم انني عربي وامرهم بالانصراف، رحب بي واعلمني أنه حلاق الجهة وكل الناس هنا ابناء عمومة وأناس طيبون، جلب بعد ذلك ما تيسر من خضروات مشوية، طماطم، باذنجان وكان قنوعا بشوشا وعندما اخبرته ان ما جلبه من اكل يكفي جماعة قال لي “كله من فضل الله”

بهرتني طريقتهم في تجفيف الخضر والغلال والتقطت صورة لتجفيف الباذنجان

لم يعد يفصلني عن مدينةً sanilrufa سوى 30 كم وعلي الاسراع للوصول اليها قبل حلول الظلام، اختفت الجبال وبدات السهول الشاسعة في الظهور والطريق كان سهلا، الناس كرماء ولطفاء، يستدعونني دائما لشرب الشاي ولكني اعتذر لان الطريق مازال طويلا، الكتابات على واجهة المحلات كلها بالكردية وكذلك لباس السكان بالسروال الفضفاض الطويل ويتميز الرجال باللحية والشوارب الكبيرة، مع حلول الظلام اقتربت من مدينة sanirufa وفي اول محطة بنزين نصبت خيمتي متعبا لقضاء ليلتي هناك وتناولت عشاء مميزا وختمت بالشاي التركي الشهير

يتبع …
بقلم
سمير بن يعقوب
دراج رحالة تونسي ، اضافة الى زيارة كل المناطق التونسية عبر كل الجزائر والمغرب والاردن ومصر وتركيا وإيران.
ينشر كل نشاطه على صفحته بالفايس بوك.

كل اجزاء رحلة تركيا:
1  –  2  –  3  –  4  –  5  –  6  –  7  –  8  –  9  –  10  –  11  –  12  –  13  –  14  –  15  –  16  –  17  –  18  –  19  –  20

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.