تركيا القريبة بالتاريخ البعيدة بالجغرافيا (4)

الان دخلت العمق التركي والأرياف حيث البساطة والبشاشة والترحاب، حيث الحرفي والفلاح مع الابتعاد عن زحمة المدن وضغط السير.

غادرت مدينة اراش ARAÇ على الساعة الثامنة صباحا، على جانبي الطريق تنتشر المزارع الخلابة،  يتفنن الفلاح التركي في التعامل مع ارضه، الوقت موسم حصاد فتراهم مع عائلاتهم  يحصدون مجهود سنة كاملة من الكد والجد وكلما مررت بهم القي عليهم سلامي فتتم دعوتي لشرب الشاي، اول عائلة شاركتهم طعامهم كانت عائلة عم مصطفى واطفاله مروى و راقية اللتان شدتهما دراجتي وأمتعتها وعلمها وصاحبها أبيض الشعر وكنت سعيدا بتلقي أسئلتهما: كم عمرك؟ من اين أتيت؟ كم لك من يوم هنا؟ هل لديك  ابناء؟ هل انت مسلم؟ ما هذه اللوحة المعلقة خلف الدراجة؟.

كانت اسرة طيبة وكنت سعيدا بالحديث مع أفرادها وكانوا سعداء مع اطفالهم وحيواناتهم، قنوعين بابسط الاشياء، دائمي الابتسامة، تناولت مع أسرة عم مصطفى الغداء المكون من البرغل (لديهم ايضا نفس الاسم) وحساء باذنجان باللحم المفروم وجبنة تشبه الكاممبار من صنع زوجته و معجون تفاح،

كان الاكل لذيذا جدا ويشبه كثيرا اكلنا في تونس، هم سعداء رغم بساطتهم، لطفاء رغم قساوة الحياة ولاجلهم ارتحلت، لم آت الى المناطق السياحية ولا المنتزهات الفارهة التي ينصحني بها في كل مرة أحد اصدقائي لزيارتها، اتيت لاقترب من الناس وأعيش معهم حياتهم، كنت أتكلم مع الجميع بلغة عالمية هي لغة الاشارات وبها امكنني التعبير والتواصل مع من لا يشاركني اي لغة مشتركة.

واصلت طريقي بين الضيعات وتحت ظل الاشجار المحاذية للطريق

عبرت مدينة DADAR  عصرا ووصلت قرية  Arabacilar وكنت ساتجاوزها ولكن نصحني احد الرعاة بالمبيت بها فالطريق وعرة وغير صالحة للتخييم، هذه القرية الصغيرة والتي لا يتجاوز عدد منازلها ثلاثون منزلا كانت مستقرا لي ليلتها، اتجهت الى المسجد الوحيد بها وفتحت الباب الخارجي فلم أجد احدا فنصبت خيمتي بحديقته، ارتفع اذان المغرب بشكل آلي ولم يأت أحد للصلاة، فاجأتني إمرأة مسنة في التسعينات من عمرها ممن يقطن في جوار المسجد بالقدوم، أفهمتها أني تونسي وسأبات الليلة هنا، بعد ربع ساعة عادت بصحبة كل عائلتها حتى ظننت انهم سيطلبون مني المغادرة ولكنهم عكس ما تصورت استغربوا مبيتي في الخيمة لبرودة الطقس وفتحوا لي باب السكن الوظيفي للامام راجين مني المبيت داخله وساعدوني في تنظيم لوازمي، أمدتني بعد ذلك بالخضر والخبز والشاي والبسكويت والغلال لعشائي، كانت كل مرة تعود ومعها فرد من العائلة او الجيران وتقول لهم: أنظروا، جاءنا من تونس على “البيسكلات” هكذا تنطق ايضا في تركيا، ذكرتني هذه المرأة الطيبة بالعديد ممن عرفتهم بشكل مشابه، لن انس سيدي الحسن في الدار البيضاء ولا ابورعد في غور الاردن وعبد الرحمان في صعيد مصر ولا عم مصطفى وخالتي فتحية  في اناضول تركيا.
قمت على عكس عادتي باكرا وجهزت دراجتي وانطلقت، قبل ذلك ودعت بنظراتي هذه القرية الطيبة والتقطت صورة صباحية للمسجد الذي بت به ليلتي.

الطريق رغم قصره كان صعبا وحادا في أغلبه، كنت ادفع الدراجة أغلب الاوقات واستريح عند اول نقطة مياه تعترضني تحت شجرة من الاشجار المنتشرة بكثرة، على جانبي الطريق نمت أزهار و ورود جميلة جدا وكانها زرعت خصيصا رغم انها نمت تلقائيا.

مررت بعدة تجمعات سكنية yakah وحسن آغا HASANAGA ، يمتهن سكانها تربية الابقار و زراعة الحبوب، لم اكن في عجلة من أمري رغم صعوبة الطريق فجماليته اجبرتني على التقاط كثيرا من الصور ومقاطع فيديو مختلفة وكنت عندها على ارتفاع 1200 مترا على مستوى البحر في منطقة تكسوها الثلوج كليا خلال فصل الشتاء،  لاحت لي معالم القرية التي كنت اقصدها وهي قرية ليست كبقية القرى التي اعترضتني فهي تتميز بخاصية غريبة جدا، انها قرية تونسية بتركيا، سكانها تونسيون واسمها “تونس لار”، اي تونسي يزور تركيا يتمنى فعلا معرفة هذه القرية التي تحمل اسم الوطن وتاريخها وسبب وجودها هناك، سمعت عنها الكثير وكانت الرحلة فرصة رائعة لاكتشافها،

في مدخل القرية توجد حنفية تخليدا لارواح التونسيين الذين سقطوا في حرب القرم وعربون الصداقة  التونسية التركية وشيدت في 13 جويلية 2002 اي منذ عشرون سنة

لفت انتباهي وحز في نفسي عدم وجود العلم التونسي رغم وجود السارية وقد يكون تمزق دون ان يعوض  وبدافع الوطنية اخذت علمي الذي لازمني في جميع رحلاتي حيث سافر معي الى مصر  والاردن والمغرب والجزائر وخلال كل جولاتي الداخلية  ثبت العلم ورفعته عاليا يرفرف مع تحية عسكرية على روح كل من استشهد.

قرية التوانسة ممتازة جدا ويحلو فيها العيش فعلا.

لكن ما اصل وجود هذه القرية؟ عند اندلاع حرب القرم بين الامبراطورية الروسية والامبراطورية العثمانية على شبه جزيرة القرم في مارس سنة 1853 استنجد السلطان العثماني بتونس و مصر، فشاركت تونس بجيش قوامه 15 الف جندي يقودة الجنرال رشيد  وتدعمه سفن حربية كلها من صنع تونسي محملة بالعتاد والمؤونة والخيول والمدافع، كان الهدف الاساسي لاحمد باي إظهار قوته العسكرية امام فرنسا وقدرته على الدفاع عن تونس في حال تمادت في اطماعها وارادت احتلالها خصوصا وانها احتلت الجزائر سنة 1830 ، انتهت الحرب في مارس 1836 بهزيمة روسيا وامضاء معاهدة استسلام مذلة لها، يذكر المؤرخون روايتين لانشاء قرية تونس بتركيا او تونس لار (لار تعني قرية بالتركية).، الرواية الاولى تقول ان كتيبة من الجيش ضاعت في الجبال والغابات وانعزلت بمفعول الثلوج واغلقت امام جنودها طريق العودة فبنوا الاكواخ وتزوجو بنساء من اهل المنطقة وأصبحت القرية تسمى باسمهم، الرواية الثانية تقول انه عند انتهاء الحرب ورجوع اغلب الجنود التونسيون الى بلدهم خير البعض منهم الاستقرار في تركيا فمنحهم السلطان بقعة ارض اعترافا بجميلهم ليستقروا فيها فبنوا منازلهم وتزوجوا من بنات الجهة.
انتابتني عدة مشاعر امتزجت بين الفخر و التأثر، تحت العلم تخيلت هؤلاء الذين غادروا وطنهم واجبرتهم الظروف لعدم العودة، إذا اختاروا البقاء بمحض ارادتهم فمن المؤكد ان هنالك اسباب دفعتهم لذلك وماذا وجدوا هنا مقارنة بهناك ليختاروا هنا؟، واذا اجبرتهم الظروف وتاهوا هنا فمن المؤكد انهم بقوا طيلة حياتهم يودون مقابلة احبابهم في الجهة الاخرى من الوطن، رفعي للعلم هنا كان ممزوجا باحساس جميل لن يحسه الا من عاشه. قررت أن يكون يومي يوم راحة لاسترجاع بعض حيويتي ونشاطي بعد تسعة ايام من الترحال والتجوال و قطع قرابة 600 كم  وكذلك للتعرف أكثر على قرية التوانسة في تركيا “تونس لار”، كانت الاقامة في كوخي الصغير ممتازة فهو يقع في اعلى الجبل ويلامس السحاب والضباب ويطل على القرية كليا باعتبار وجود القرية على علو يبلغ 1200 مترا،  في الصباح جاءني مضيفي عم مصطفى واصر على حملي الى الجانب الاخر من القرية في سفح الجبل عبر طريق وعرة  الى مكان دفن فيه جندي تونسي يسمى بالتركية ” تربة محمد التونسي”  و قد اقيم له ضريح من الرخام مصان بشكل جيد، زرت الضريح وهو متقن الصنع وبشكل لافت مما يظهر احتراما كبيرا لساكنه

مكنني عم مصطفى من مشاهدة أسس بيوت الجنود التونسيين والبئر الذي كانوا يشربون منها وعلى الاغلب انهم استقروا أولا في هذا المكان قبل تحولهم لمكان القرية الحالي، كما زرنا مقبرة اخرى لسكان القرية ولاحظت أن أغلب الالقاب من عائلة “يلماز”، يبلغ عدد السكان بها 80  فردا صيفا ونصفهم شتاءا بحكم قساوة طقسها وعمل اغلب شبابها في المدن الكبرى كاسطنبول وانقرة، عرفت جوابا لسؤال جال بخاطري حول عدم وجود مدارس ومراكز بريد ومستوصفات بكل القرى التي مررت بها وذلك ان “تونس لار” مثلا لا تضم الا خمسة تلاميذ في الابتدائي ينتقلون بالحافلة المدرسية للالتحاق بمدرسة تبعد عنهم 15 كم ونفس الحال للقرى المجاورة،  سكان القرية الذين تحدثت معهم يعتزون باصولهم التونسية لكن للاسف لا يتكلمون العربية ولا يعرفون سوى اللغة التركية ولم اجد الا فتاة وحيدة تتكلم الانجليزية لتقدم لي المعلومات التي اريدها عن القرية، لا يعرفون عن تونس شيئا الا شكل العلم وبورقيبة وانها مجاورة للجزائر وسكانها مسلمون مثلهم، يطبخون الاكلات التركية ويعيشون عيشة الاتراك، يمتهنون الفلاحة ويحققون الاكتفاء الذاتي ولا توجد لديهم محلات تجارية.

مبانيهم تعتمد الاجر والخشب

لاحظت اعتماد نسائهم في لباسهم على السراويل الفضفاضة

لم اعثر في القرية عمن يتكلم الانجليزية الا فتاة واحدة امدتني بالمعلومات التي احتاجها.

معلومة مختصرة على الهامش
حرب القرم هي حرب قامت بين الإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية في 4  أكتوبر 1853، واستمرت حتى 1856م.، دخلت مصر و تونس و بريطانيا و فرنسا الحرب إلى جانب الدولة العثمانية في 1854م ثم لحقتها مملكة سردينيا التي أصبحت فيما بعد (1861م) مملكة إيطاليا. كانت أسبابها الأطماع الإقليمية لروسيا على حساب الدولة العثمانية وخاصة في شبه جزيرة القرم التي كانت مسرح المعارك والمواجهات، انتهت حرب القرم في 30 مارس 1856م بتوقيع اتفاقية باريس وهزيمة الروس.

يتبع …
بقلم
سمير بن يعقوب دراج رحالة تونسي ، اضافة الى زيارة كل المناطق التونسية عبر كل الجزائر والمغرب والاردن ومصر وتركيا وإيران. ينشر كل نشاطه على صفحته بالفايس بوك.

كل اجزاء رحلة تركيا:
1  –  2  –  3  –  4  –  5  –  6  –  7  –  8  –  9  –  10  –  11  –  12  –  13  –  14  –  15  –  16  –  17  –  18  –  19  –  20

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.