تركيا القريبة بالتاريخ البعيدة بالجغرافيا (19)

بعد ليلتين قضيتهما في مدينة van مريضا ودون مال كاف ومع الساعة الثامنة جمعت امتعتي واتجهت نحو وسط المدينة اين تتواجد البنوك فوجدتها مغلقة حيث أنها لا تفتح الا الساعة التاسعة، انتظرت حتى تم فتح الباب وقمت بصرف ورقة نقدية من فئة خمسين يورو وهو مبلغ يكفيني لما تبقى لي من ايام معدودات قبل اجتياز الحدود، لاحظت أنه لا يوجد أحد يتكلم الانجليزية فحتى رئيسة الفرع تجهل ذلك، اتجهت بعد ذلك لاقرب مطعم لآكل اي شي فمنذ يومين ورغم مرضي لا أتناول الا الخبز والحليب، اكلت وجبة دسمة من اعداد الطاهي اسماعيل البشوش والخلوق.

أعجبتني ابتكارات الناس من خلال افكار طريفة مثل هذا المطعم الذي كان سيارة قديمة

شد انتباهي هذا المسجد حديث الانشاء

بما انني لم أتصل بأي رد من السفارة الايرانية حول المعبر الحدودي القريب من van “مرز رازي” وان كان مفتوحا أو لا، وهل هنالك بنوكا لصرف العملة، وهل يقبل به العبور بالتأشيرة الألكترونية، فقد قررت التوجه شمالا والدخول عبر معبر بازركان، انطلقت مع الساعة العاشرة ضمن مناخ مشمس مصحوبا بنسيم بارد اجبرني منذ الصباح على ارتداء بنطال طويل، كان الطريق محاذيا في اغلبه لبحيرة van وأحيانا يلاصقها، أنا أعشق البحر والبحيرات ولذلك توقفت للاغتسال بماء البحيرة والتقاط بعض الصور لكني اكتشفت ملوحة مائها مع انبعاث رائحة كريهة وانتشار كبير للبعوض وكانت خالية من الحياة فلا أسماك ولا طيور وعندها عرفت أنها مصب فضلات ومياه مستعملة لكل القرى المجاورة وتاسفت لجمال رائع يستعمل كمصب

بقية الطريق كانت خالية من القرى وان وجدت فهي متباعدة وبعيدة عن الطريق الرئيسي، ملاذي الوحيد للتزود بالماء والطعام والاستراحة كان محطات البنزين وهي متباعدة جدا فالطريق خال من الحركة والحياة، اغلب الاراضي الفلاحية بعلية فلا ابار ولا قنوات ري ولا حنفيات عمومية في الطريق. اعترضني تركي على دراجته النارية يتحدث العربية بطلاقة وسبق له زيارة تونس، ولم يودعني الا بعد أن أهداني عدة مقتنيات اشتراها وعاد بها الي، توقف بحذوي تركي اخر يعمل استاذ انقليزية لنصحي بعدم السير ليلا او التخييم بعيدا عن التجمعات السكنية لان الطريق خطر بوجود حيوانات غابية مفترسة ثم أعطاني رقم هاتفه لطلبه عند الحاجة.
لكل هؤلاء ولغيرهم ممن سبق وقابلتهم الامتنان الكبير وواجبي تحيتهم ولو من بعيد، هؤلاء الذين عرضوا مساعدتهم دون اية معرفة مسبقة يستحقون تحيتهم لتميزهم بانسانية عالية واخلاق فاضلة. الطريق قليل الحركة وفي بعض المناطق سيء جدا، اغلبه صعود خفيف على طول خمسين كيلومترا. ذهلت لما رأيت اللافتة المرورية تشير الى وصولي لارتفاع 1860 مترا، في الشمال التركي ورغم كثرة جباله ومرتفعاته اعلى جبل كان ارتفاعه 1400 مترا. لفت انتباهي باقتي ورد ملصقتين بالعلامة المرورية، وعندما سألت عن الامر اعلموني ان اي فتاة تتزوج خارج المدينة تضع عند المغادرة هذه الباقات

كان هدفي بداية الوصول الى مدينة المرادية Muradiye والتي تبعد عن وان 83 كم لكن وبسبب حالتي الصحية وخروجي متاخرا وصلت مع حلول الظلام الي قرية كراهان karahan والتي تبعد عشر كيلومترات عن المرادية. في محطة البنزين الوحيدة توقفت واستاذنت من صاحبها لاخيم بها فرحب بي واقترح علي المبيت بمسجدها كما سررت بوجود مطعم صغير بالمحطة يقدم أطباقا شهية وكان نظيفا جدا وصاحبه على خلق عال، تناولت وجبة العشاء به ثم نمت بالمسجد الصغير.

من قرية Karahan انطلقت على الساعة الثامنة بعد ان قمت بنشر تدوينتي الصباحية، اول ما اعترضني مدينة المورادية muradiye ، مدينة فلاحية تتبعها قرى مترامية الاطراف

كانت الطريق أمامي ممتازة وقليلة الحركة، كنت اتوقف احيانا لمشاهدة فلاح في ارضه واتجاذب معه اطراف الحديث، مررت امام مصنع صناعة الرخام وزاد تاكدي من تاثر العرب والترك ببعضهما البعض، فهذا مصنع صناعة المرمر.

مررت قرب عربة قطار قديمة فرنسية الصنع من سنة 1820 م، جلبت من مقاطعة ازمير لتعزز اسطول الشبكة الحديدية هنا وعندما استغني عن خدماتها وضعت فوق الجسر لتكون مكونا سياحيا في المنطقة

تنتشر ايضا سدود صغيرة تستعمل لري مئات الهكتارات الزراعية، وضعت ايضا صفارات الانذار لينطلق صوتها عند وجود سيول او فيضانات لاعلام الاهالي والاستعداد لمواجهة الحالة.
اعترضتني سيارة على جانب الطريق و صاحبها يفترش زربية للاستراحة في الظل، استاذنت منه بالاشارات لمشاركته الجلسة والاستراحة معه ففاجأني ان قال لي بالعربية: “يا ميت مرحبا بالاخوة التوانسة”، اخبرني انه من عرب تركيا ويقطن في “شان لوفى” المدينة التي ارتديت فيها لباس السلاطين، علمت منه انهم متمسكون بأصلهم ولغتهم العربية ويتحدثونها فيما بينهم ولكن الدولة تمنع تدريسها كحال الكردية فهم يمثلون اقلية مثلهم، اخبرني انه وخلال اسبوعين أو ثلاثة يبدأ نزول الامطار وكذلك الثلوج وستصبح القيادة في المنطقة صعبة جدا. واصلت طريقي ولاحظت أن طبيعة التضاريس تتغير بسرعة ومن جبال وهضاب وسهول صفراء كليا الى منطقة خضراء. كان غدائي جيدا ومتنوعا ويصلح لدراج مثلي

عندما بدأت الشمس تتجه نحو الغروب قررت المبيت في أول محطة بنزين تعترضني، وصلت لأول محطة واتجهت مباشرة لصاحبها، كان رجلا في الخمسينات من العمر وتبدو عليه بوضوح علامات التقوى وزاد تأكدي من ذلك وجود السبحة في يده، طلبت منه بكل لطف بعد ان شرحت له سبب تواجدي في هذه المنطقة السماح لي بنصب خيمتي والمبيت بمحطته، فاشار باصبعه نحو الطريق و نطق “otel otel” يعني سر نحو المدينة القادمة على بعد عشرين كيلومترا فبها نزل، انطلقت مجددا وقد حل الظلام وتذكرت نصيحة استاذ الانقليزية بعدم المبيت في الخلاء لوجود حيوانات مفترسة، حال خروجي من المحطة اعترضني مرة اخرى الحسن صاحب الدراجة النارية، اهداني هدية وقال لي “لا تخف، فكل هذه المنطقة قرى كردية واهلها بسطاء وكرماء”، ودعته وواصلت طريقي ليلوح لي مع آذان المغرب تجمع سكني وبه مسجد صغير اسمه Basgimez .
امام اول بيت نادتني بنتان صغيرتان “hello hello ، سلمت عليهما وسرعان ما خرجت أمهما لاستجلاء الامر، أخبرتها أني عابر سبيل واطلب الاذن بنصب خيمتي في حديقتهم

يتبع …
بقلم
سمير بن يعقوب
دراج رحالة تونسي ، اضافة الى زيارة كل المناطق التونسية عبر كل الجزائر والمغرب والاردن ومصر وتركيا وإيران.
ينشر كل نشاطه على صفحته بالفايس بوك.

كل اجزاء رحلة تركيا:
1  –  2  –  3  –  4  –  5  –  6  –  7  –  8  –  9  –  10  –  11  –  12  –  13  –  14  –  15  –  16  –  17  –  18  –  19  –  20

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.