اكتشاف الطلسم – ايران على الدراجة (13)

كان الطريق خاليا من اي قرى او تجمعات سكنية، في منتصف الطريق وجدت منتزها وحيدا دخلته للاستراحة فدعاني صاحبه لشرب الشاي واخذ نصيب من الراحة باحدى البيوت والتي صنعت من جريد النخيل.

بعد الظهر، واصلت طريقي، لاحت لي قرية مبنية بالتراب والطين واظنها مهجورة منذ عشرات السنين، دخلت بيوتها ومدرستها ومتاجرها، هي قرية تعد قرابة 40 مسكنا كانت في وقت مضى تعج بالحياة، من المؤكد أن تلك الجدران احتوت حياة مليئة بالسعادة قبل أن يتغير الزمان ليغادرها ساكنوها كل الى وجهته الجديدة ليؤسس حياة اخرى وتبقى هذه البيوت شاهدة لعشرات السنين عن ضحكات اطفال وعرق رجال ونساء روى هذه الارض يوما ما، كل ركن من اركان القرية يذكرني بقرية زراوة الامازيغية المهجورة بجهة مطماطة والتي سبق لي زيارتها حيث نزح شبابها للعمل في العاصمة والمدن الكبرى اما شيوخها فتوفي من توفي منهم والبقية انتقلت لتعيش مع الابناء في مقارهم الجديدة.

وجهتي الان مدينة “شاه رضا” وتنطق هنا “شه رزا”، وصلتها قبيل المغرب وسالت سيدة مترجلة عن اقرب مطعم، فركبت سيارتها لترشدني وانا اتبعها بدراجتي حتى اوصلتني لمطعم، نزلت وقالت لي تفضل بالشفاء والهناء و welcome to iran وهذه من مميزات الشعب الايراني نساء ورجالا وحتى أطفالا، يقدمون المساعدة دون طمع في مال او شكر او تزلف، بعدها، قمت بجولة صغيرة في المدينة للتعرف على الحدائق والتي تعودت على المبيت داخلها، لاح لي في ربوة مسجد جميل فقررت زيارته، اسمه “شه رضا” وهو اسم احد الاولياء الصالحين ونسبة اليه اطلق اسم المدينة

بالمسجد ساحة كبيرة وواسعة جدا وبها كل المرافق وتحتوي ايضا مئات القبور لشهداء المدينة واغلبهم سقطوا ابان حرب الخليج، لفت انتباهي قبر شكله مختلف عن البقية وعند التثبت وجدته لقاسم سليمان قائد فيلق القدس والذي اغتالته المخابرات الامريكية في العراق قرب مطار بغداد اوائل سنة 2020، بالقرب من المسجد يوجد مكتب مفتوح، قصدته وطلبت من الموظف الاذن للتخييم بساحة المسجد، سالني وهو ينظر الى دراجتي: هل أنت عربي؟، اجبته اني تونسي، قال لي: الطقس بارد جدا ليلا، انتظر لحظة، بدأ يجري مكالمات هاتفية ولا اسمع الا كلمات من قبيل تونستان، توريست، بيسكلات، مسلمان، توجه الي قائلا: هيا معي مع دراجتك، ساعطيك بيتا تبيت فيه هذه الليلة، هنا بجانب البيت توجد مجموعة صحية وفي الجانب الاخر متجر صغير ان احتجت اي شيء ومكتب الاستقبال مفتوح ليلا نهارا، تمنى لي ليلة سعيدة وجولة ممتعة في ايران. هذه هي ايران التي ابهرتني، ابهرتني القيمة الانسانية التي تعم الجميع هنا، أقف احيانا في احد مفترقات الطرق فياتيني احدهم سريعا ويعرض علي المساعدة او يسألني عما ينقصني ليوفره لي، مرة قصدت محلا لاسترشد عن مكان ما، فاغلق صاحبه المحل بوضع عصا على الباب، فقط عصا وقال لي اتبعني ليقودني الى حيث اريد، هذه التصرفات بدانا نفتقدها في مجتمعنا او فقدت أصلا، رحلتي متواصلة نحو شيراز والتي تبعد عني حوالي 400 كم.

تشتهر مدينة “شه رضا” بانتاج الرمان حتى وضعوا له مجسما عملاقا

من الصور التي التقطتها صورة معبرة جدا عن التسامح الموجود بالبلد ومسألة التشدد مجرد كلام اعلام يجانب الصواب للأسف،هذه صورة مسيحي ايراني يضع كتابة على سيارته تقول: “أنا مسيحي واطلب من السيد المسيح تسهيل هجرتي لاروبا”، هل هنالك تشدد في ايران بعد هذه الصورة؟

صباحا، جمعت امتعتي وجهزت دراجتي، كان الطقس باردا ومصحوبا بهبوب الريح، عند ارجاع مفتاح البيت دعاني المكلف بالاستقبال لشرب كأس شاي ساخن قبل الانطلاق

شاهدت معلقة تحتوي اسعار الاقامة فاستفسرت عنها، اخبرني ان هناك العديد من العائلات تاتي لزيارة الولي أو المدينة فتقيم في هذه البيوت بمقابل رمزي عوضا عن الاقامة الباهضة بالنزل، بالنسبة إلي فقد اعتبروني ضيفهم وضيف ايران ولذلك جعلوا اقامتي مجانية.
توكلت على الله وانطلقت جاهلا بمكان مبيتي القادم فالمدن والقرى متباعدة جدا، الطريق تسلكه غالبا الشاحنات الثقيلة المحملة بالسلع، من هذه الشاحنات هنالك من تقدم بحرا من الدول المحاذية لبحر قزوين كتركمنستان وكازاخستان واذربيدجان، دول ليس لها منفذا بحريا خارجيا فتمر سلعها عبر ايران برا لتصل الى الموانئ الايرانية في الخليج العربي او الفارسي كما يسمى هنا، القيادة عبر الطريق متعبة جدا فهذه الحركة الرهيبة تجبرني على الانتباه الدائم

بعد العصر و صلت قرية “اوزاخوست” وكنت وقتها قد قطعت اكثر من 60 كم، تناولت الغداء بها وتمثل في ارز ودجاج مع البصل والحبق كمقبلات

بعد الغداء استرحت قليلا، وعندما كان قدوم الليل بعيدا فقد قررت عدم المبيت في هذه القرية، كانت القرية التالية تبعد 45 كم تقريبا مع عدم وجود اية استراحات او خدمات او حتى مكان ظليل ورغم ذلك واصلت السير، انتشر الظلام ومازال امامي 25 كم اخرى قطعتها مع انارة الدراجة وقيادتي كانت بحذر شديد، اخيرا وصلت القرية الصغيرة وكان اسمها “شورجستان”، كانت كل محلاتها مغلقة ولا تحتوي اي حديقة، طرق باب منزل من المنازل فكرة لم ترق لي فالوقت تأخر، خيرت الحل الامثل وهو التوجه لمقر الهلال الاحمر الايراني

كانت بنايته كبيرة ومضاءة من كل جانب، طلبت الاذن بوضع خيمتي في حديقة المقر بعد ان شرحت لهم رحلتي ومراحلها، فاستغربوا مبيتي في الخارج مع الطقس البارد ولديهم غرفا مجهزة، رحبوا بي لاكون ضيفهم في مقرهم، ركنت دراجتي في المستودع بجانب سيارات الاسعاف واختاروا لي غرفة جميلة وارشدوني لبيت الاستحمام وبيت الصلاة، طلبوا مني جواز سفري لارسال نسخة منه الى الادارة العامة لجمعية الهلال الاحمر. بالمقر خمسة شبان، مسعفان وطبيب وممرض وسائق، كلهم متطوعون مدة عشرة ايام في الشهر، تلقوا التدريبات اللازمة كل حسب اختصاصه.

أعدوا العشاء، جلسنا وتحدثنا وتعشينا وسط جو من المرح، شباب رائعون فعلا، المقر مجهز للاقامة المريحة وللعمل الجدي ولديهم كل التجهيزات، مجال تدخلهم يشبه تدخل الحماية المدنية عندنا لكن دون اطفاء الحرائق، كل ذلك يتم تحت اسم جمعية الهلال الاحمر الايراني، المقر يتكون من طابقين ويحتوي عدة غرف مع مطبخ مجهز وقاعة تمريض وصالون مجهز بتلفزيون وجهاز تكييف ومدفأة

كل المعدات بسيارات الاسعاف من صنع ايراني محلي، من الاسرة الى الانارة الى اجهزة الانعاش الى المولد الكهربائي، عند كل مسافة 30 كم يوجد مركز شبيه بهذا يتدخل عند الحوادث أو عند طلب الاهالي. قدموا لي كتابهم الذهبي لادون به ذكرى مروري واقامتي وكنت اول دراج رحالة يشاركهم ليلة مبيت معهم

كنت تعبا جدا فاستأذنت منهم للنوم، اخذوا ملابسي المتسخة ووضعوها في الة الغسيل واعلموني انني ساجدها في الغد جافة ومطوية، تواصل انقطاع الانترنت في ايران للاسبوع الثاني لكن بالبلد “انترانات”، شبكة داخلية بها يتواصل العمل بالبنوك والادارات العمومية وحتى التواصل الاجتماعي بين الايرانيين يتم عاديا باستعمال تطبيقة محلية خاصة بهم (تشبه الفايسوك)، فايران معزولة خارجيا بانقطاع الانترنت لكن داخليا الحياة تسير كالمعتاد، صباحا ودعت اصدقائي بالهلال الاحمر بعد التقاط بعض الصور

انطلقت عند الساعة السابعة وكانت وجهتي مدينة شيراز والمسافة مازالت طويلة (300 كم)، الطريق تتمثل في صعود خفيف مستمر، القرى والمدن التي تعترضني الان تقع على ارتفاع يفوق الالفين متر وسط الجبال والسهول الجرداء، اعترضتني مدينة آبادة والتي تبعد 25 كم عن مقر الهلال الاحمر، بها توقفت لتناول الافطار والمدينة الثانية هي سورماق على بعد 40 كم من ابادة، اخبرني شباب الهلال الاحمر ان كل هذه المناطق تسقط بها الثلوج شتاءا وفي هذا الوقت تنخفض الحرارة ليلا كثيرا وعلي الحذر، واصلت طريقي بكل هدوء لاتحين واختار المكان المناسب لاقامة خيمتي، لاح لي من بعيد برج ارسال للهاتف الجوال غير بعيد عن الطريق العام فخمنت انه اجمل اختيار لقضاء ليلتي في هذه الطبيعة الجرداء، كان برج الارسال مسيجا وبداخله كلب حراسة وامامه صهريج صغير يحتوي ماء عذبا للاغتسال والشرب، شرعت في نصب خيمتي لقضاء ليلة اخرى من ليالي السهرات الفلكية، لاحظت عودة الانترنات بعد انقطاع دام قرابة اسبوع، خلال يومي هذا اعترضتني قلعة مهجورة فدخلتها وتجولت بها

لديهم طريقة طريفة لتثقيف المجتمع، على طول الطريق يضعون لافتة تحتوي سؤالا وبعد بعض الكيلومترات تجد الجواب وهكذا على طول الطريق

آن لي اخيرا ان التقي باهلي في ارض فارس … ال يعقوب

ليلتي قضيتها مخيما قرب برج الارسال، لم اشعر بالبرد عكس تحذير شباب الهلال الاحمر وربما يعود ذلك لنوعية تجهيزات التخيم الممتازة التي امتلكها، في الصباح، استيقظت لأجد بقربي دراجة الحارس وهي دراجة خاصة بالمعاقين، قد يكون قدم اخر الليل ولم يتفطن لوجودي ولا أنا تفطت بقدومه، اعددت إفطار الصباح وتضمن تمرا وبسيسة ايرانية اشتريتها من اصفهان مع تين مجفف ورمان وجوز

يتبع …
بقلم
سمير بن يعقوب دراج رحالة تونسي ، اضافة الى زيارة كل المناطق التونسية عبر كل الجزائر والمغرب والاردن ومصر وتركيا وإيران. ينشر كل نشاطه على صفحته بالفايس بوك.

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.