اكتشاف الطلسم – ايران على الدراجة (14)

انطلقت سالكا الطريق الوطنية المؤدية الى شيراز ضمن طقس صباحي بارد، الــ 25 كم الاولى كانت صعبة اذ دفعت فيها دراجتي قرابة سبعة كيلومترات في طريق ملتوي يشق الجبال مع عبور الشاحنات المحملة بالحديد والرخام المنتج من المقاطع المنتشرة في جبال الجهة، بعد بلوغ قمة المرتفع والتي تقدر بــ 2100 مترا قدت عبر طريق منحدر على عشرات الكيلومترات، عرض علي البعض من سائقي الشاحنات حملي مع دراجتي الى شيراز بدل كل هذه المشقة ولكني رفضت شاكرا، باصفهان العديد من معامل الحديد والصلب يصدر جل منتوجها عبر مرفأ “بندر عباس” في شكل لفائف، اولا الى دبي وبعدها نحو اغلب الدول الغربية المصنعة للسيارات، طريقة تستعملها ايران للالتفاف على العقوبات الغربية، الجميع يستوقفني ويستضيفني لشرب الشاي ويمطرونني بالاسئلة المعهودة: من اين اتيت؟، اين ذاهب؟، ما اسمك؟، اين تنام؟، لما كل هذه المشقة؟، ما الهدف من هذه الرحلة؟، في احد المنعرجات الجبلية اوقفني شاب يمتطي دراجته النارية، اعلمني أنه رآني منذ شهر في كبدوكيا بتركيا وتذكرني بمظلتي وعلم تونس خلف الدراجة، انه الشاب الايطالي ادريانو، في الثلاثينات من العمر، انطلق من ايطاليا منذ بداية الصيف في رحلة على دراجة “سكوتار” من نوع piaggio مصممة من سنوات الستينات ووجهته بنغلاداش للمساهمة في بناء ملجأ، طول رحلته عشرة الاف كم وبوصوله الى ايران يكون قد قطع نصفها، يقطع اندريانو يوميا ما بين 150 و 200 كم، عندما دعوته لزيارة تونس اخبرني انه يسمع كثيرا عن تطاوين وقراها البربرية وامنيته زيارتها يوما ما.

واصلت طريقي وكان كله منحدرا مريحا، قبيل الغروب وفي قرية “مادر سليمان” قابلتني استراحة بها كل المرافق من مطعم ومسجد وحديقة للتخييم فقررت المبيت بها، تناولت عشائي ونمت امام مطعم احدى الاستراحات دون الحاجة لخيمة فقد كان مكان نومي مغطى، عندما افقت صباحا غادرت القرية بعد افطار خفيف اقتصر على ما تبقى من مخزوني الصغير: خبز ورمان وجبن، وجهتي القادمة مدينة شيراز لكن ساتوقف بمدينة تاريخية مهمة تقع قبلها اسمها “بارسيبوليس”، كان الصباح باردا والطريق سهلة ومنبسطة، كان المشهد رائعا جدا فقد كنت ضمن مزارع خضراء: ذرة، طماطم، دوار الشمس.

حاليا موسم جني الطماطم الفصلية والبصل وهذا خلق حركية كبيرة من جمع ونقل وبيع على اطراف الطريق، توقفت عديد المرات مع الفلاحين ورعاة الاغنام من عامة الناس وتعرفت على شغلهم ونشاطهم

موسم جني الطماطم والبصل.

صادف اليوم ذكرى المولد النبوي الشريف حيث مررت بعديد القرى فلاحظت غياب اي مظاهر للاحتفال في الشوارع عكس عاشوراء أو الاربعينية رغم انه يوم عطلة رسميا، في طريقي يشدني دائما تصميم المراقد ويخيل الي انني في اجواء الف ليلة وليلة

قصدت الموقع الاثري persipolis او كما يسمى هنا “تخت جمشيد”، وصلته عند العصر، يبعد عن الطريق الرئيسي حوالي 3 كم والطريق كانت تعيسة لا تليق بموقع اثري عالمي كهذا سمعت عنه الكثير، فوجئت بالكم الهائل من السيارات والزائرين، كان هنالك قرابة الالف سيارة والموقع يعج بالحركة، به مركب تجاري ومطاعم ومقاهي ودكاكين، كان المشهد مبهرا فعلا، العائلات تفترش الارض للغداء و شرب الشاي. كنت في كل مرة محل اهتمام العائلات الايرانية، هذه تريد معرفة حكايتي مع الدراجة وهذه تريد التقاط الصور معي والجميع يظنني تركيا لتشابه علم تونس مع العلم التركي، معلوم الدخول الى الموقع خمسون ريالا للايرانين ومليون ريال للاجانب اي ما يعادل ثلاثة دولارات

دخلت الموقع وتجولت فيه، كل الاثار محاطة بسياج بلوري والمشاهدة دائما من بعيد، الاثار كالاعمدة والتماثيل منهارة الا النقوش الحائطية بقيت سليمة في بعض الاماكن، وصلت المتحف فوجدته مغلقا وبعد الحاح كبير فتح لي الحارس الباب، المتحف عبارة عن بهو يحتوي غرفتين بها خزائن بلورية تعرض تحفا اثرية عادية. خلال جولتي تعرفت على العديد من العائلات صاحبوني في الزيارة، ميزة لاحظتها لدى الشعب الايراني، حالما يتفطنوا كونك اجنبيا يسارعون للتعرف عليك والتحدث معك. انهيت جولتي مع السادسة وهو توقيت اغلاق الموقع، تناولت عشائي بالمركب التجاري واقتصر على لمجة بسيطة، مع الساعة الثامنة نصبت خيمتي في حديقة المتحف بعد ان غادر الجميع، اليوم اتممت الالفية الرابعة ولم بعد يفصلني عن شيراز سوى 60 كم

قضيت ليلتي في حديقة المنطقة الاثرية برسيبوليس persepolis، كانت ليلة مصحوبة باصوات الكلاب السائبة وصوت الموسيقى الصاخبة المنبعثة من سيارات الشباب المتهور في شوارع المدينة الاثرية، يحدث هذا ودوريات للشرطة ثابتة و متنقلة موجودة بالمكان، جمعت خيمتي صباحا وانطلقت فلا توجد محلات مفتوحة بالمكان، غير بعيد عن المنطقة الاثرية وجدت منتجعا انشئ في غابة جميلة، قمت بزيارته فوجدته يحتوي “شاليات” خشبية جميلة ومكان مخصص للتخييم مع توفر كل المرافق

في اول قرية توقفت لتناول الافطار ويتكون من “عجة تونسية” مع مخللات وكان هذا المتوفر في المطعم

المثلجات في ايران تكون بنكهة الزعفران ويعطيها نكهة رائعة فعلا

حالة الامان بالبلد عامة فحتى الفلاح يجمع منتوجه ويتركه على حافة الطريق ولا يسرقه احد، منتوج البصل على حافة الطريق في حفظ الله

المسافة التي تفصلني عن مدينة شيراز ليست بعيدة فهي في حدود 45 كم والطريق منحدر سهل لكن خلال الـ 20 كم الاخيرة توجب علي دفع دراجتي لتجاوز مرتفعين على مسافة 7 كيلومترات.
وصلت شيراز وبحثت عن الحدائق العمومية لاجد عددها يفوق العشرة، فضلت اقربها وذهلت لنظافتها وحسن صيانتها ورقي مرتاديها، فهذا يقرأ كتابا وهذا يقوم بحركات احمائية وهؤلاء مجموعة تمارس رياضة المشي، تجولت في الحديقة فوجدتها تحتوي كل المرافق، اخترت مكانا منزويا بعيدا عن الانارة والحركة ونصبت خيمتي، عشائي كان كل ما تبقى لدي ويتكون من سلطة، خضر، بازلاء وتفاحتين والحمد والشكر لله.

معلومة على الهامش
برسيبوليس وتعرف اليوم باسم «تَخْتِ جَمْشيد»،  مدينة أثرية على مسافة 60 كم إلى الشمال الشرقي من مدينة شيراز الإيرانية، وكانت مركز حكم الأسرة الأخمينية أواخر القرن السادس حتى أواخر الرابع ق.م ، زارها سنة 1765 الرحالة الدنماركي “كارستن نيبور” وكتب وصفاً لأطلالها وصور بعض آثارها المعمارية، بلغت مملكة الأخمينيين أوج قوتها واتساعها في عهد الملك داريوس الأول (521- 486ق.م) والذي نقل مركز الحكم عام 518ق.م من باسارغاد إلى بِرْسيبوليس وبقيت عاصمة لهم حتى احتلها الاسكندر المقدوني في مطلع عام 330ق.م، دمّر الاسكندر المدينة إلا منطقة القصور الملكية. أقام الاسكندر في قصور برسيبوليس مدة قصيرة ثم أحرقها فغدت أطلالاً بقيت حتى عصرنا.

يتبع …
بقلم
سمير بن يعقوب دراج رحالة تونسي ، اضافة الى زيارة كل المناطق التونسية عبر كل الجزائر والمغرب والاردن ومصر وتركيا وإيران. ينشر كل نشاطه على صفحته بالفايس بوك.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.