اكتشاف الطلسم – ايران على الدراجة (12)

انطلقت الساعة السادسة، الحديقة هادئة والعائلات المخيمة بها مازال أفرادها نيام، الحركة بدأت تدب في المدينة شيئا فشيئا، اخذث الطريق السريعة الى اصفهان التي تبعد تقريبا 160 كم ومن المؤكد أنني لن اصلها هذا اليوم وسأقضي ليلتي في اي قرية او مدينة تعترضني قبل حلول الظلام. الطريق صحراوي جبلي وفي حالة رديئة، لم تعترضني الا استراحتان، الاولى مع الساعة العاشرة و كنت قد قطعت تقريبا نصف المسافة وبها تناولت افطاري وسمحت لي صاحبة المطعم بالاستلقاء للاستراحة لحدود الساعة الثانية اين استانفت السير. أوقفني اصحاب سيارة “كارفان” وارادوا الحديث معي فاذا بهما زوجان شابان ايرانيان مهران والزهراء، من عشاق السفر والمغامرة ويطلقان على انفسهما اسم “زوج ابو كمون” يعني “الزوجان ذوا الحواجب” وكانا مصحوبين بزوجين صديقين على دراجة نارية.

استدعاني الزوجان لاكون ضيفهما في اصفهان فقبلت الدعوة شاكرا وهي فرصة للتعرف على شباب ايران وعلى هواة التجوال والمغامرة بشكل اخر، واصلت المسير وقرب مدخل مدينة نطنز لاح لي مرقد لاحد الاولياء يقع فوق ربوة

وجدت قربه عدة سيارات مما يعني ان هذا المكان يمكن زيارته والتخييم به، وصلته وأنا أدفع دراجتي

كان هنالك قرابة العشرون سيارة وهنالك دكان صغير بالمكان، اشتريت كل ما يلزم للعشاء، في ايران، عندما يرفع آذان الظهر يصلى الظهر والعصر معا و كذالك يصلى المغرب والعشاء معا، صليت المغرب والعشاء في ساحة المرقد وكان للامام بين الصلاتين تفسيرا لجزء من سورة الرحمان وكان الكلام بالفارسية طبعا، الحركة بالمرقد لا تهدأ من زوار و مصلين، نصبت خيمتي مع حيرة بعض الزوار من صغر حجمها فهم معتادون على خيام واسعة وكبيرة.

قليل جدا من الشعب الايراني ممن يعرف ان هنالك مسلمون سنة في افريقيا وجل معرفتهم تقتصر على دول الجوار: العراق، تركيا، باكستان، افغانستان، ومن المناطق العربية يعرفون السعودية ودبي، افقت صباحا مبكرا، المكان خال تماما من الحركة والمشهد الصباحي كان اخاذا

انطلقت وكانت وجهتي اصفهان، الطريق طويل وجبلي ويجب علي الاسراع للوصول اليها قبل حلول الظلام. بعد قرابة 10 كم من انطلاقي اعترضتني اشارة مرورية تشير لمدينة نطنز وأنها تبعد عن الطريق العام عشرة كيلومترات

نطنز تحتوي المفاعل والمشروع النووي الايراني المثير للجدل و هو من اسباب فرض العقوبات الاقتصادية المسلطة على ايران، اردت الدخول اليها لكن احد الاصدقاء الايرانيين نصحني بعدم التفكير في ذلك فالمنطقة مراقبة بصفة دقيقة وبما انني اجنبي فساخضع للتفتيش وربما للبحث ايضا، مشاهد الاسلاك الشائكة وابراج الحراسة العسكرية بجانب الطريق مسحت كليا من دماغي فكرة زيارة هذه المدينة

واصلت طريقي، الطقس حار ومشمس ومازلت لم اقطع نصف الطريق بعد، التضاريس شبه صحراوية وتحيط بها الجبال، سمعت صوتا غريبا صادرا عن العجلة الخلفية لاكتشف سلكا حديديا طويلا دخل بين السلسلة والعجلة ولم افلح في اخراجه رغم محاولاتي، توقفت شاحنة زرقاء بالقرب مني لينزل سائقها ويفترش في ظل شاحنته، سالته إن كان يملك ادوات تنفع لنزع السلك الحديدي فاعتذر ودعاني لمشاركته الجلسة وبعدها “ربي يحلها على خير”، عرفني بنفسه، العم إبراهيم، من اكراد ايران ويمتهن بيع الزرابي، شخصية طريفة ويتكلم العربية قليلا، اخرج موقده وظننته سيشعل النار لطبخ الشاي، اخرج من جيبه ورقا ابيضا وبدأ يلفه ثم اخرج مادة صمغية سوداء تشبه القطران ممسوكة بسلك حديدي ثم وضع سلكا آخر فوق النار وضعه بعد ان سخن فوق المادة السوداء فخرج منها دخان ابيض كثيف استنشقه بانبوبه الورقي، عرفني بهذه المادة وهي مادة “الترياق”، مادة مخدرة ممنوعة في ايران، دعاني لتجربتها فاعتذرت

وضعنا دراجتي في صندوق الشاحنة بعد ان اعلمني ان هنالك دكان اصلاح عجلات قريب من المكان ولديه كل ما احتاج اليه وكان الامر كما قال حيث اخرجت السلك بكل سهولة، ودعت عم صالح و شكرته، واصلت طريقي الجبلي وكان في اغلبه منحدرات، طيلة الطريق غمرني الايرانيون بكرمهم واخلاقهم العالية

وصلت اصفهان مع غروب الشمس متعبا وجائعا فتوقفت عند اول مطعم اعترضني، هاتفت بعد الاكل مضيفي مهران لاعلمه بوصولي، قدم مهران مع زوجته الزهراء واصطحبتهما للمنزل حيث سهرنا وتحدثنا طويلا، كان العشاء اميريا وبذوق رفيع

يوم اضافي خصصته للتعرف على اصفهان لما لهذه المدينة من تاريخ ودور كبير في بلاد فارس، الجولة ستكون بالدراجة ودليلي و مرشدي الزهراء زوجة مهران، اصفهان وتعني بالفارسية نصف العالم تعد ثلاثة ملايين ساكن وكانت عاصمة للدولة خلال العهد الصفوي، انطلاقتنا كانت بعد الافطار مباشرة نحو وسط المدينة مرورا بالجسور التاريخية التي تربط جانبيها وصولا الى قلب اصفهان النابض حيث مسجد الشاه الذي تحول اسمه منذ 1979 الى مسجد الامام الخميني، تم بناؤه سنة 1629 وبه صومعتان بعلو 48 مترا وقبة بارتفاع 58 مترا، امام المسجد ساحة عملاقة تسمى “نقش جهان” بمقاسات 518 مترا / 183 مترا وهي تعتبر ثاني اكبر ساحة في العالم بعد ساحة تيان ان مان في بيكين، الساحة بها ممرات للمترجلين والعربات التي تجرها الخيول مع مساحات خضراء، يجانبها “البزار المركزي” بمحلاته التجارية، تتوسط هذه الساحة نافورة ماء كبيرة ومساحات خضرا ء رائعة، خلفها يقع قصر “علي قابو” ذو الاعمدة لخشبية العملاقة، معالم صامدة لم تعبث بها ايادي المستعمرين والمخربين، بقيت كما هي، وهي مصانة بشكل جيد جدا ومبهر، تم تصنيف كل هذه المعالم ضمن قائمة التراث العالمي منذ 2012.
قصر “علي قابو” ذو الاعمدة الخشبية

مسجد الخميني

بعض اروقته الداخلية

ساحة “نقش جهان”

الدخول الي كل هذه المعالم بمليون ريال اي ما يعادل 9 د تونسية بالنسبة للاجانب.

جولتنا تواصلت في البازار المركزي الذي يحيط بساحة نقش جهان الفسيحة، السوق مقسم حسب الاختصاص، الذهب، النحاس، التوابل، العطور، الزرابي، كل شئ منظم ومرتب، بازار كله حركية ليلا ونهارا، الغداء كان في احد المطاعم الشعبية غير البعيدة عن الاسواق.

لا توجد كراسي او طاولات بمطاعم ايران، الكل يجلس على الزرابي من خلال جلسة تعودت عليها و احببتها كثيرا وفيها كثير من التواضع حيث يتساوي جميع الناس فقيرهم وغنيهم، الجميع ينزع حذاءه ويجلس نفس الجلسة.

الارز والمشاوي واللبن والشاي لا تغيب عن موائد الايرانيين.

الشاي يقدم مع “سكر نبات”

مع المغرب انطلقت مع الزهراء نحو منزل أم زوجها فالكل ينتظر هناك للاحتفال بعيد ميلاد مهران الثلاثين، عبرنا الحدائق والانهج والجسور لمسافة تفوق خمسة كيلومترات، المدينة تشهد حركة رهيبة ليلا، عائلات متجمعة في الحدائق والمتاجر مفتوحة وكأننا في النهار وهذا من مميزات ايران

وصلنا الى المنزل حيث استقبلتنا ام مهران وهي مدرسة لغة عربية وسررت بالحديث معها بلغتنا العربية، كانت اجواء عائلية تبرهن مدى تمسك الإيراني بروابط الاسرة فقد كان الجميع حاضرا من الاحفاد الى الابناء الى الجد والجدة.
وجدت مدينة اصفهان جميلة جدا واعتبرها اجمل جميلات مدن ايران لنظافتها وطيبة ورقة اهاليها ولجمال حدائقها ومعالمها من قصور ومساجد وساحات، كانت فعلا من المفاجآت السارة برحلتي. هي مدينة التعايش والتسامح بامتياز فهي تضم 14 كنيسة كما تضم اكبر تجمع لليهود والمسيحين الايرانين، في ايران عموما يوجد 25 الف يهودي ( اكبر جالية يهودية متواجدة خارج فلسطين المحتلة) واكثر من نصف مليون مسيحي ويؤدون واجبهم العسكري كبقية الايرانيين، الكنائس مصانة جيدا و بشكل مبهر وهذا يدل على تعايش الديانات في ايران، احببت هذه المدينة كثيرا واحسست براحة نفسية كبيرة داخلها وكأنني في جزيرتي، جزيرة الاحلام جربة، بعد الافطار شكرت مهران والزهراء على الكرم الكبير والمحبة الفياضة التي لامستها معهما وحمدت الله ان جمعني بهما ليكونا عونا لي ومرشدان رائعان في مدينة جميلة ورائعة كاصفهان، حسب رأيي، لو سوق ما تحتويه المدينة سياحيا لتفوقت على اسطنبول وباريس وبراغ ولو سهل الله لي عودة لايران فبسبب بشاشة وكرم الشعب الايراني ومدينة اصفهان.

يتبع …
بقلم
سمير بن يعقوب دراج رحالة تونسي ، اضافة الى زيارة كل المناطق التونسية عبر كل الجزائر والمغرب والاردن ومصر وتركيا وإيران. ينشر كل نشاطه على صفحته بالفايس بوك.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.