رحلتي الاولى على الدراجة

راودني حلم الرحلة على الدراجة منذ المرحلة الثانوية في سنوات 94 او 95 على ما أذكر، لا أعرف كيف خطر ببالي هذا الحلم ولم أكن أعرف أشخاصا يهتمون بهذا النوع من المغامرات، ربما حب المغامرة و مشاهدتي لبعض السياح الأجانب الذين كانوا يعبرون دوز مدينتي كل فترة وأخرى بدراجات محملة بالأمتعة هو الذي أوحى إلي بهذه الفكرة، ليس هذا هو المهم، المهم أن الحلم قد لمع في دماغي، طرحت الفكرة على مجموعة الاصدقاء بالمعهد، بدت لهم الفكرة رائعة وممتازة فهي تشبع اندفاعنا و حتى تهورنا و بحثنا المستمر عن المغامرة و التحدي خصوصا ان من الصفات التي يتصف بها افراد “شلتنا” المتحمسين للفكرة هي الفقر و “الشيطنة”، لكن مغامرة كهذه تتطلب دراجة باهضة الثمن و زاد و زواد و مصاريف، بعد أخذ و رد صدمنا واقعنا وفتر الحماس و بدأ الحلم ينطفئ ويخمد، درست وتخرجت وعملت وسافرت ونسيت ذلك الحلم، سنة  2013 و بعد 19 سنة من “حادثة الحلم ” تأسست في مدينتي جمعية للدراجات فاستيقظ الحلم من جديد وكانت التحضيرات و الترتيبات والاستعداد، 13 دراج ينطلقون من دوز في اتجاه بنزرت (أقصى مدينة تونسية تقع في الشمال) عبر الجنوب الغربي والوسط والشمال الغربي في دورة حول كامل تراب الجمهورية عبر مسافة تبلغ 1700 كم بالتمام و الكمال على الدراجة دون سيارة مرافقة و لا فريق صحي و لا أدنى دعم من مؤسسات الشباب أو ما شابه، كانت الرغبة جامحة تتجاوز بكثير مؤهلاتي البدنية،لم اكمل بعد تحضيراتي البدنية لكن عندما يناديك شغف الهواية تنصاع العضلات. انطلقت الرحلة يوم 10 اوت 2013 من دوز على الساعة الثالثة صباحا في اتجاه عاصمة الجريد “توزر” كمرحلة أولى ولعوائق مهنية تخلفت عن المجموعة في اليوم الأول و كان علي اللحاق بهم من الغد لنلتقي في مدينة “قفصة” و كان علي الانطلاق من دوز في اتجاهها، تأخرت في إنهاء ترتيباتي المهنية وشارفت الساعة منتصف النهار ومازال امامي 110 كم، كان لدي خياران، الخيار الاول استقل سيارة نقل عمومي لتجنب قيض الحرارة الملتهبة والخيار الثاني مواصلة الطريق على الدراجة و الطقس و التوقيت غير مناسبين بتاتا، ترددت كثيرا بين الخيارين، عقلي و رفاقي يقولان : سيارة النقل العمومي وهو الخيار العقلاني، وروح المغامرة تقول لي: الدراجة، خيار المواصلة على الدراجة هو الأجمل بين الخيارين لكنه محفوف بمخاطر و صعوبات ومع تلك الصعوبات هنالك انعدام اي خبرة لدي باعتبار ان رحلتي هي الأولى مع عدم وجود رفيق والرفيق قبل الطريق كما يقول العقلاء، كنا في شهر أوت الحار جدا وليس من الحكمة مطلقا الانطلاق عند منتصف النهار، اضافة لعامل الطقس والمناخ فقد كان الطريق جبليا و صعبا وخال كليا من الحياة في جزء كبير منه وآخر المعوقات تجاوزي سن الشباب فعمري فاق الـ 38 سنة، بعد أخذ و رد اتخذت قراري، تغلب حب المغامرة على الحذر والعقل، اتخذت القرار غير العقلاني وانطلقت و الساعة تشير إلى الواحدة بعد الزوال على الدراجة المحملة بامتعة الغطاء والفراش و الخيمة و بعض لوازم الاكل و ما تيسر من ملابس، انطلقت وحيدا عبر “خنقة ام علي”، تضاريس الطريق تتراوح بين الجبل والسبخة مع مسافة تقارب 70 كم خالية من اي حياة، اتصل بي رفاقي في الرحلة وطمأنتهم بعبارات فضفاضة، غرقوا في النوم مطمئنين إلى رجاحة عقلي و انا توغلت في الطريق معتمدا على الله و على حماسيى، قرية “استفطيمي” القابعة على مسافة 15 كم شمال “قبلي” كانت آخر عهد لي بمظاهر الحياة وقبل وصولي اليها اعترضتني سيارات قليلة يسارع اصحابها للعودة إلى منازلهم، ففي ولاية قبلي لا تسمح الطبيعة بالتواجد خارج المنزل بعد الساعة الواحدة
ما ان تجاوزت واحة “استفطيمي” حتى رأيت جنون التحدي رأي العين، لا شي يتحرك سوى أقدامي و عجلات الدراجة، بعد كلمترات قليلة  اختفى حتى الجماد، لا شيئ امامي سوى طريق و كأنه حبل اسود ممتد يعبر سبخة منبسطة إلى ما لا نهاية، لا شجر و لا حجر و لا ظل و لا ماء، يمتد البصر فلا أرى إلا السراب و الحبل الأسود، حتى الإبل التي تحذر منها بعض علامات الطريق لا أثر لها، لم أشعر باي وحشة او تردد بل بالعكس كنت أتقد حماسا …حلمي يتحقق، كلما توغلت في السبخة كلما بدا لي و كأني اتوغل في اللاحياة، لا حياة من حولي و داخلي كله حياة، كنت اتوقف من حين لآخر لأوثق اللحظة، كنت اضطر إلى تثبيت جهاز التصوير بوضعه على حجر او كومة رمل و اعدو سريعا بجانب الدراجة، انقطعت مكالمات الاصدقاء، ليس خطئي ان فهموا أنني انطلقت بامتطاء سيارة نقل عمومي فكل ما ذكرته لهم أني انطلقت، غاصوا في نوم عميق و غصت في جبال “الشارب، وصلت “”خنقة ام علي في حدود الساعة الرابعة و هكذا اكون قد تجاوزت الجزء الاصعب من المرحلة: “السبخة” و “جبال الشارب”، مررت بجانب مركز “الحرس الوطني” القابع على رأس الجبل و كأنه عش نسر، غير أن النسر يضع عشه في مكان ظليل اما مركز الحرس فتلفحه الشمس من شروقها الى أن تغيب، رمقني العون من وراء بلور النافذة و لسان حاله يقول ماذا يفعل هذا المجنون بنفسه؟ ولسان حالي يقول الحياة مغامرة، ما ان تجاوزت نظرات العون حتى انحدر الطريق و سارعت الدراجة مسرورة بالانحدار، و لاحت لي بعض مظاهر الحياة شجرة تلوح هناك، حتى “مظلة السعف” طارات من فوق راسي طربا، يا الله، انتابني شعور سندبادي، يا الله ماء، حنفية يجري منها الماء و شجرة و ظل، تخلصت من حذائي سريعا و سكبت الماء على راسي سكبا و انا بكامل ملابسي، يا الله، يا له من شعور، بعد حوالي ثلاث ساعات و نصف تحت شمس حارقة في قيلولة رهيبة أجد حنفية ماء، أنا ملك، بل انا امير فالملك يعاني من أعباء الحكم اما الأمير فلا أعباء عليه سوى المتعة، تركت الماء يجري انطلاقا من راسي وينساب تحت ثيابي يطارد حبات العرق، اصبغت وضوئي و نظرت إلى قرص الشمس لأعرف اتجاه القبلة ولسان حالي يقول لها لقد انتصرت ، لم تهزميني، ها انت تنسحبين نحو الافول و ها أنا اواصل الطريق، اسقبلت القبلة و صليت الظهر و العصر في طمأنينة كبيرة وخشوع فطري، أنهيت صلاتي و امتطيت دراجتيى رفيقة الدرب، انهالت مكالمات الرفاق بعد أن شبعوا نوما: “الو، الى الان لم تصل؟ ” “كدت اصل يا جماعة، 40 كم فقط واصلكم، ابتسم بيني و بين نفسي، يظنون اني داخل سيارة النقل العمومي، بعد “الدش” الطبيعي بدأت قواي تضعف و أصبحت و كأني أجر عربة لا دراجة و هذا طبيعي جدا، انها اول رحلة في حياتي و لأول مرة اقطع هذه المسافة، وصلت “قفصة في حدود الساعة الثامنة ليلا منهكا خائر القوى لكن في داخلي سرور جندي ربح معركة غير متكافئة الفرص، الاثنين 11 اوت 2013 حققت حلم 2005 .
تتالت بعد هذه المغامرة مغامرات اخرى، و تزايد عدد الدراجين الرحالة في “دوز” و في تونس عامة و انشأت جمعية فجر الصحراء “دار الدارج” و ازداد الحلم كبرا و أصبح الحلم “دوز مدينة الدراجة “.
بقلم فرج بنمحمد – دراج رحالة وناشط جمعياتي  (للتعرف اكثر على الكاتب يمكن الرجوع للحوار الشامل معه هنا)
تعليق واحد
  1. فرج بنمحمد يقول

    شكرا سي مهدي ، متميز صديقي

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.