ذكريات طفل من الارياف 6

نسيت التاريخ تحديدا ولكني اتذكر الحادثة جيدا، الحادثة وقعت وانا ادرس بالسنة الخامسة او السادسة ابتدائي، كنت صغيرا وقتها، كان شغفنا بكرة القدم لا يوصف انا ومن هم في سني من ابناء عمومتي وحتى اخوتي الاقل مني، الكرة بالنسبة لنا هي مجال الترفيه الوحيد في قرية جبلية نائية يحدها الفقر والقهر من كل جانب، نتحصل على اموال لشراء كرة سواءا من بيع دجاجة او بيضا او من ثمن بعض الزيتون او اللوز، عندما يشتري احدنا كرة بلاستيكية ننظم المباريات في “القاعة” و”القاعة” هو مكان مسطح ومنبسط يتم اعداده لوقت الحصاد في الصيف حيث يستغله اهل القرية كـ”مندرة” للقمح والشعير، في باقي الايام هو ملعبنا الوحيد للقاءات الحماسية في كرة القدم، المباريات كانت تدور عادة في اوقات الفراغ القليلة بعد رعي الاغنام صباحا وعندما يدخل اهل القرية للقيلولة نخرج نحن الى “الملعب” وننظم انفسنا في فريقين وتبدأ المباريات، نهاية المباراة لا تخضع للوقت وانما تخضع اساسا الى النشاطات العشوية من رعي وتقديم علف المواشي وجمع اوراق التين واللوز والاوراق الجافة بصفة عامة للاغنام، تنزل الشمس قليلا فيخرج اهل القرية لمناداتنا و تكليفنا بالاعمال الروتينية اليومية، كل عائلة حسب حاجياتها، أنا و اخوتي مثلا كل له عمل يقوم به، كان من اعمالي تقديم العلف لقطيع الاغنام الذي تملكه العائلة واسهر على ان تأكل كل نعجة و كل عنز كمية معينة و الحؤول دون نشوب الصراعات بينها من اجل لقمة إضافية، في بعض الاحيان يتم ابعاد الخرفان الصغار عن امهاتها في فصل الفطام فاسهر على عدم اختلاطها وعدم الالتحاق بها، فهذا القطيع الصغير من الاغنام والماعز هو العائل الوحيد لنا وهو المساهم الاول في تدريسنا وشراء لوازمنا لذلك كانت مكانته بمكانة فرد من العائلة او حتى اكثر، مثلا في الشتاء و عندما تهطل الامطار بغزارة وتطول ايامها و خوفا على القطيع نقتسم انا و اخي الاصغر الغرفة الواسعة مع الاغنام والماعز، يقوم والداي بتقسيم الغرفة ببعض الالواح ويتركان فراشا متداعيا اقتسمه مع اخي وفي الجهة الاخرى يقبع القطيع الصغير وتكون المدة مرتبطة اساسا بانقطاع الامطار، في بعض الاحيان يتسرب خروف حديث الولادة او جدي صغير يطلب الدفء فيدخل بيني وبين اخي، في الصباح أجدني محتضنا خروفا او جديا وهي امور عادية تحدث غالبا، لم تكن تقلقنا رائحة الاغنام و لا فضلاتها فالقطيع هو رأس المال الوحيد الذي يضمن تواصل الدراسة وتواصل العيش فليس لنا دخلا اخر ما عدا بعض الزيتون في الشتاء وبعض اللوز في الصيف، في بعض الاحيان نكون انا واخي والقطيع والعلف في نفس الغرفة، لنا غرفتان فقط وقتها، غرفة لامي وأبي ومعهما اخوتي الصغار والغرفة الاخرى لي وأخي الاصغر والماعز والاغنام والعلف، رغم كل هذا كانت كرة القدم ترفه عنا وكنا نتعاطى هذا النشاط بكل شغف ومحبة، اما نتائج المباريات فكانت ثقيلة جدا نظرا لكثرة ساعات اللعب فعادي جدا ان تنتهي النتيجة 30- 28 او 26-16 وفي بعض الاحيان نمر الى ركلات الترجيح دون ان تنتهي المباراة بالتعادل ولكن فقط عندما نكون غير راضين على النتيجة فان ركلات الترجيح تحسم المباراة دون اعتبار النتيجة الحاصلة اثناء اللعب فوق الميدان، في بعض الاحيان وعندما ننتهي من اشغالنا قبل غروب الشمس نلعب اشواطا اضافية حتى الليل واحيانا يتواصل اللعب على ضوء القمر ان كانت السماء صافية.
في احد ايام اول الربيع وعندما بدأ النهار يتمطط قليلا، كنا نلعب بعض المباريات قبل غروب الشمس بقليل، كانت احدى المباريات حماسية الى ابعد الحدود ومن يغادر الفريق عندما تناديه امه او يناديه ابوه يعتبر متخليا وبذلك يخسر المباراة ويتسبب لفريقه في هزيمة يتندر بها الرابحون حتى مباراة الغد، كانت امي تناديني لكي اقوم بالاعمال المناطة بعهدتي لانها كانت وحيدة في العمل بين علف الاغنام وطهي الطعام والاهتمام بالاخوة الصغار وعلف الناقة والحمار وجلب الماء واعمال اخرى لا تحصى ولا تعد، لكني كنت منهمكا في اكمال المباراة وعدم الانسحاب في هذا الوقت لكي لا اتحمل وزر الخسارة فيما بعد، كانت تنادي وانا لا اجيبها، كانت لا تستطيع ترك البيت والاتيان الى “القاعة” لتجبرني على العودة الى البيت بالقوة رغم عدم بعد الملعب، ارسلت اخوتي الصغار لمناداتي ولكني كنت في تمام التركيز على المقابلة فلم ابال ولم افكر حتى في العواقب وما يمكن ان يحدث فيما بعد رغم معرفتي الجيدة بأمي حين تغضب من احدنا ، يتعرض للعقاب الشديد و الضرب المبرح وهي محقة في ذلك بسبب عدم الاهتمام بنداءاتها المتواصلة، انتهت المباراة بعد غروب الشمس و عاد كل اللاعبون الى بيوتهم الا انا، فقد بدأت “السيناريوهات” تقفز الى رأسي و خاصة نوعية ” الطريحة” المنتظرة، هل ستستعمل الحبل ام احد الالواح او عصا وخاصة كم سيدوم العقاب؟ .. ربع ساعة او اكثر والمشكلة دوما في الوقت المستغرق في الضرب و هذا هو المقلق حقيقة، قررت ان لا ادخل البيت و اتدبر الامر حول اين أقضي الليلة فالجريمة يمكن ان تخفف بمرور بعض الوقت او تسقط بالتقادم المهم ان اكون بعيدا لبعض الوقت عن ساحة المعركة لأتفادى العقاب واكسب قلب الام واعطيها وقتا لتهدأ قليلا وتنسى ما حصل، أغلقت امي الباب وانا خارج البيت حيث ظنت انني طلبت اللجوء السياسي الى بيت جدي والتي لا تبعد عن بيتنا الا بضعة امتار، بدأ برد الربيع يقلقني نوعا ما و الوقت حوالي العاشرة مساءا و نام الجميع، كان هناك بيت صغير من القش صنعته امي لثلاثة دجاجات تحتضن بيضها و هو بيت يمكنني الاحتماء به على الاقل من البرد. دخلت زاحفا لذلك البيت الصغير من القش و حاولت ان لا اقلق راحة الدجاجات لكن كنت كلما اتحرك تصيح احداها، احرك رجلي فتصيح واحدة، احرك رأسي فتصيح الاخرى دفاعا عن مجالها الحيوي، احرك يدي فتصيح الثالثة، حاولت ان اتسمر دون حراك لكن البرد كان يقلقني و لباسي كان خفيفا نوع ما، كانت الدقائق تمر و كانها ساعات و لم يأت الصبح، وصلت الساعة الثالثة صباحا و لم اعد اقوى على التحمل والدجاجات احسسن بالقلق و كل مرة اتلقى “نقرة” من احداها كلما لمستها، نقرة” في الرأس كانت قاسية فعلا و احسست بألم شديد فمددت يدي اليها و احكمت قبضتي على رقبتها ورميتها خارجا، فأطلقت عقيرتها بالصياح و تبعتها الدجاجتان حيث قفزتا خارجا و كثر الصياح مما افاق امي من نومها ظنا منها ان ثعلبا هاجم الدجاجات لتجدني  وقد خرجت من بيت القش الصغير، نادتني متسائلة: “الم تذهب لبيت جدك؟، فاجبتها بالنفي، “ولماذا لم تأت و تنام مع اخوتك؟”، لم اجبها، فقالت لي: ” ادخل الى فراشك”، دخلت الفراش ابحث عن الدفء و دخلت بعدي مباشرة، رفعت عني الغطاء ووضعت يدها على كتفي لتجد جسدي باردا جدا، لامتني بشدة على هذا الفعل و كيف اقبل ان انام مع الدجاجات و لا ادخل البيت وسرعان ما تغاضت عن موضوع عدم الامتثال لأوامرها. عند الصباح وكلما مررت من مكان وتراني احدى الدجاجات تصيح باعلى صوتها و تبتعد عني سريعا.
اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.