وصايا الفشل المر (1)

الحياة تمر سريعا دون أن نشعر، هذا من تحصيل الحاصل للجميع، مررنا جميعا بتجارب قد تكون غنية جدا بنتائجها ومردودها، وقد تكون فاشلة كليا، كل منا، ومهما كان موقعه او عمره يحس أن الكثير ينقصه، الكثير جدا للاسف، يريد ان يتم الكثير من الاعمال او الاهداف والحياة لا تمكنه من ذلك، او لم تعطه الامكانيات ليفعل او ليحقق كل ما كان يهدف اليه.

أذكر أن أحلامي كانت كثيرة وكبيرة ومتنوعة جدا، متنوعة لدرجة كنت أراها رائعة وقتها، والاكيد المؤكد أن الجميع أو اغلبية البشر على الاقل لهم مثل هذه الاحلام وان اختلفت في اهميتها، الاحلام دائما ممتازة ولكن تحقيقها صعب للاغلبية منا للاسف، وما أراه واضحا وجليا أن عقدنا هي التي ساهمت مساهمة فعالة وكبيرة في فشلنا هذا، فجيلي والاجيال التي سبقتنا عانت من محبطات كثيرة عرقلت الاغلبية لتنطلق وجعلتنا معقدين لابعد حدود التعقيد رغم اننا لا نقر بذلك.
إذا كنت أبا أو أما فهذه السلسلة تهمك وبدرجة كبيرة، إذا كنت تنتمي لبيئة فارغة كليا من اسس الحياة فهذه السلسلة تهمك وبدرجة كبيرة ايضا، أما إذا كنت تجمع الصفتين فتلك فرصة لك اولا ولي ثانيا لنصلح ما يمكن اصلاحه.
أنا ولدت وعشت وأعيش في قرية صغيرة في آخر جنوب تونس، ليس فيها شيء لافت للانتباه، كل كلام الشعراء عن الطبيعة والهدوء والسكينة والطمأنينة يصبح كلاما فارغا أمام طفرة العلوم الحالية وامام هوايات الزمن الحالي وأمام تغير العالم كله ليصبح قرية كونية تجعل امريكا بضجيجها بقربك.
منذ 30 سنة، عشت سنتين بمدينة المنستير الساحلية ، منذ ذلك الوقت وجدت لديهم جمعيات علمية وثقافية كبيرة تضم المئات ومدعومة بقوة، وقتها كنا نحن نعيش في الفراغ الرهيب والذي لا ينتج شيئا الا شخصا جافا غير قادر على التواصل الايجابي والسريع مع الغير، والى الان يعاني اغلب جيلي والاجيال التي سبقتنا من التلعثم وتداخل الافكار عند مقابلة غرباء ولو كانوا عربا، ولو كانوا مسلمين، بل ولو كانوا من نفس البلد ايضا، فجفاف المناخ وفراغ المحيط من دوافع التواصل مع الغير انتج اطيافا تشك في كل شيء، في الغرباء، في الاقارب ايضا، عند السفر، خلال ركوب القطارات، عند الذهاب للعلاج خارج نطاق الولاية، نخاف ونهرب من الملتقيات الكبرى التي يكثر فيها الناس، نخاف ونشك كثيرا في الشراكات التجارية ولعل اكبر دليل على ذلك شهرة المثل الشعبي لدينا “الشركة تركة” وكأن كل من سنشاركه سيسرق اموالنا القليلة ويهرب بها في اول منعطف، حتى الشراكة دون دفع المال نشك فيها او نخاف منها تحديدا دون أسباب وجيهة رغم اننا نقدم تبريرات نراها منطقية.
عندما تنشر تعليقا ناقدا لموقف منشور على الفايس بوك مثلا او تويتر او اي منصة اجتماعية، ينضوي ناشره ويدخل معك حربا ضروسا لا تبقي ولا تذر ولا ينقصها الا الرصاص لاننا لم نتعود اسلوب الحوار الهادئ الرصين وغير المتشنج.
تعودنا أن نكره النجاح لدى غيرنا حتى وان كان نجاحا بسيطا، حتى وان كان نجاحا عاما وليس خاصا، حتى ولو كان سيعود بالنفع على العشرات من اطفال قرية صغيرة لا تحتوي شيئا ومازلت لم ولن انسى تلك العراقيل الكثيرة التي قابلتها عند برمجة انشطة ثقافية لاطفال قريتي الصغيرة وابرزها الحرق الكامل لمكتبة علمية كونتها مع اثنين من اصدقائي أثناء الثورة دون أن أعرف لماذا وما الغاية ومن الرابح ومن الخاسر الفعلي لما وقع.
لاحظت شيئا مهما جدا يطبع حياتنا للأسف، وهو خلو حياتنا من الاهداف الكبيرة والتي تجعل للحياة معنى او معاني رائعة، قمة اهدافنا ان ننجح في الدراسة، نجحنا بتفوق او فشلنا فشلا ذريعا هذا لا يهم في الاصل كثيرا، بانتهاء مرحلة الدراسة يتحول الهدف الاكبر ان نعمل، بعدها يصبح الهدف الاهم على الاطلاق ان نتزوج ونكون اسرة، ثم نشقى لنعيل هذه الاسرة والهدف بعدها … لا شيء، لا شيء للاسف، أهدافنا هي بديهية الحياة ذاتها ولزوم استمرارها، مع الوقت وخلال كل ذلك نسأم ويتملكنا القلق والوساوس والحيرة من مستقبل الابناء وكاننا نحن من سيعيد تخطيط حياتهم حتى دون علمهم او ارادتهم، الى الان أنا وغيري ممن نحقق النسبة الغالبة من سكان هذه الارض العربية المسلمة نرعى ابناءنا حتى الكبار منهم ونخاف عليهم وكأنهم أطفالا في الروضة، القلق ينتاب الاهل منذ خروج الابن او الابنة من البيت وحتى الرجوع مساء او متى قدر الله لهذا الرجوع، حتى من أصبح جدا فينا يتفرغ للعناية بالاحفاد وكان الاب والام الاصليين لهذا الحفيد غير موجودين وليس لهم الحق في تربية ابنهم بدعوى ان الاجيال اللاحقة غير قادرة على تربية الصغار وكأن جيلي او الاجيال التي سبقتنا اخرجت علماء افذاذا كانشتاين او جاليليو والحقيقة انهم لم يخرجوا الا فاشلين يجترون فشل عشرات السنين .
التربية تغيرت كثيرا جدا وبشكل متطرف عن ذي قبل او على الاقل بالنسبة لفهمي انا وكل جيلي والاجيال التي سبقتنا، الامر اصبح صعبا جدا ويكاد يخنقنا لعدم فهمنا لما يجب ان يكون عليه الحال، الى الان احتار في شخص ربى ابناءه حتى كبروا وتزوجوا وانجبوا فينبري هو لمواصلة مشوار التربية الفاشلة التي انتجت اجيالا فاشلة وفشلا ذريعا ايضا.
نحن لم نؤسس لكبرنا للاسف ولذلك حالما يتقاعد الفرد منا يصبح كالصخرة المرمية على جانب الطريق، دون عمل او هدف، الحياة وقتها تقف عند الثلاثي الذي لابد منه: الخروج من المنزل والذهاب الى المسجد ثم الى المقهى حيث يجتمع مع الشيوخ المتقاعدين، وفي قريتي يكون الجلوس تحت اي حائط يصلح للجلوس المريح تحته مع جملة من شيوخ آخرين او مع كهول وجدوا في هذا الحائط راحة اغنتهم عن الابصار بعيدا ليبصروا من يروح ويجيء من بقية خلق الله، في قريتي ، قمة اهداف الواحد منا غراسة اكبر عدد ممكن من النخيل وجمع ما جادت به من مال ليضاعف غراسة نخيل آخر وهكذا كالنملة لا يهدأ ويقترف احيانا غلطة لا اعرف كيف حصلت وهي القيام بفريضة الحج وعند عودته يعود اكثر اصرارا للغوص في كثبان الرمل ليغرس اكثر ما يمكن من نخيل اصبحت العناية به تصعب عاما بعد عام، وعندما يتعب الجسم والعقل، وعندما تخور الصحة يرمى نفسه وبمحض ارادته مجبرا من شيخوخة لم يتصورها داخل ركن في بيته حتى نحمله يوما على الاكتاف ليكون هناك حيث لا رجوع، والجيل الذي يخلف الجيل السابق سوف يركب نفس الاسطوانة ليعيد سيرورة الملل والاهداف البديهية والبسيطة وغير المبدعة التي جعلت حياتنا مملة وتعيسة وخالية كليا من اي رغبة حقيقية في التحدي او النجاح المغاير.، عقدنا جعلتنا عبيدا لعاداتنا فبالكاد تجد من يمكن ان يثور على عادة قديمة او بلوى من البلاوي، نتبع بعضنا كالروبوهات، نفعل نفس الافعال ونعيد نفس الجمل، نصلي في نفس المسجد، وفي نفس الصف في الاغلب ونختار جهة محددة لسنوات، نكره التجديد مهما كان ونحن ونعشق الصمت المطبق واعيش دائما وخصوصا في الصيف النقاشات الحادة حول ضجيج حفلات الزفاف بقريتنا وكانهم لم يكفيهم 9 او 10 شهور في صمت كصمت القبور وعندما يقلقهم الضجيج الساحق في ليلة ينبري عدد كبير لنقد الظاهرة بدعوى ان هنالك رضيع يبكي او مريض يئن والغريب المضحك اني انا نفسي كاتب هذا الكلام اصبح مزمجرا ناقما على من سبب هذا الضجيج وهذا لاني انا نفسي اوجد في قلب اسطوانة العقد التي تكبلنا ، الفراشات والازهار لا تعنينا بتاتا امام قطعة لحم كبيرة في الصحن حتى ولو كانت هذه القطعة توفرت في ايام عيد الاضحى ، اسرنا وشوارعنا وطبيعتنا حولتنا لآلات استهلاكية تعشق الاكل النهم دون احساس بالجمال مهما كان، فللجمال عنوانان محددان سلفا ولو وجد عنوانا ثالثا فهو الشاذ الذي لا يحفظ للاسف ولكن يحارب بقوة وضراوة حتى يمسح مسحا.
    ……. يتبع
***************
وصايا الفشل المر … تدوينات أب في شكل وصايا لولده انطلاقا من فشل أجيال كاملة لغاية توضيح المسار من أجل حياة يتمنى ويرجو ان تكون اكثر سعادة ووضوحا ونجاحا.
اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.