ذكريات طفل من الارياف (3)

في صغري كنت مغرما جدا بالسباحة وبشكل جنوني ومرضي، وفي كثير من المرات يلحقني الوالد رحمه الله غاضبا والعصا في يده لاني تجاوزت موعد العودة للمنزل بشكل اقلقه واقلق الوالدة فتبدأ معه اسطوانة قلق الام عن فلذة كبدها حتى يكره نفسه ويقرر الذهاب “للعين” ليرى هل اني مازلت موجودا هناك او في مكان آخر.
سباحتنا وقتها ليست في نهر او بحر ولكن في مصب للماء في مكان ضيق يتسع مع الوقت فيكون مجالنا الواسع للسباحة فيه، وحتى لا يتمكن الماء من جرف التربة في الجوانب توضع صخور كبيرة لذلك فتكون كالحاجز بين الماء والتربة، وهنالك صخور اخرى توضع في اسفل الساقية حتى لا تنجرف التربة بمفعول صبيب الماء.


اذكر وقتها أن الماء كان يجري من المصب ذاك الملاصق للعين القديمة وصولا لآخر نقطة في الواحة، وعندما يصل الماء صيفا لضيعتنا او آخر ضيعة في المسار، تكون قوة الماء كحنفية ضعيفة عند انقطاع الماء وكثيرا ما ينتهي توقيت الري ولم تروى اي نخلة في ضيعتنا لان توقيت الري انتهى.
سباحتنا تتمثل في القفز في الماء من مكان مرتفع قليلا وكنا نسمي تلك القفزة “بلنجن” (plongeon) وهي كلمة فرنسية معربة حفظناها دون ان نعرف تعريبها وقتها، ويكون امهرنا من يمتلك تلك القفزة، وكنت وقتها من امهر الاطفال فيها.
التقينا مرة مجموعة كبيرة من اطفال القرية وبدانا نتسابق في القفز الواحد تلو الاخر وصادف وجود ابن عمتي ليكون حكما بيننا باعتباره يفوقنا عمرا بسنوات، واعلنها امام الجميع انني احسنهم وزاد بان اهداني ميدالية تتمثل في كتابة رقم 1 باستعمال الرمل على ظهري، فانتفخت كالطاووس وفي القفزة التالية ، جمعت كل مجهودي لتكون قفزة لم يقفزها أكبر سباحي العالم، وفعلا قفزت قفزة لم احقق مثلها بعدها ابدا، وفي قمة سعادتي لم اتفطن الا وراسي يصطدم بصخرة كبيرة في الاسفل فعندما وقفت، كان الدم يغطي وجهي كليا، فزعي كان شديدا وبكائي كان اشد ، ولكن ابن عمتي كان اكثر مني فزعا، فهو من “نفخني” حتى تخيلت نفسي اكبر سباح في العالم، وحتى لو لم يفعل فسوف اخبر الوالد انه السبب في ما جرى لي.
أخذي ابن عمتي لمنزل عمي، فهو الاقرب للعين وفوق ذلك كان يمتلك حقيبة اسعافات اولية، فهو كان من عمالنا بفرنسا واحتكاكه بالفرنسيين جعله يختلف كثيرا عن اهالينا ممن لم يغادر القرية يوما، قام عمي بما يلزم من مداواة للجرح وفق ما توفر وعدت للمنزل وضمادة كبيرة تغطي راسي، واستلقيت على السرير امام والدتي وحيرتها وخوفها ومع أسئلتها الحائرة كان صوت الوالد يصلني قويا و مزمجرا  “تستحق ذلك … تستحق ذلك .. شاهد تلك السباحة في العين اين اوصلتك … تمنيت لو انقسم راسك نصفين لتتعظ ونرتاح من شرك وهمك ” ومازال أثر ذلك الارتطام الى يوم الناس هذا في مقدمة راسي شاهدا على قوتها …..
تحياتي لكم

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.