ذكريات طفل من الارياف (2)

قليلا ما نتذكر تفاصيلا كثيرة تخص طفولتنا المبكرة، ولكني اتذكر جيدا انني كنت أصعد “للجهة الفوقية”، فأيامها كانت قريتي مقسمة طبيعيا بين الجهة الفوقية والجهة السفلية، منزلنا كان يتبع الثانية وقبل سنين خلت كانت كل القرية في الجهة الفوقية باعتبار وجودها في هضبة كبيرة تضم الجميع، كنت اقصد الجهة الفوقية حيث يوجد “حوش دار عبيد” وكلمة حوش هي الكلمة الشعبية للمنزل، فعندما كنا صغارا، كان منزل دار عبيد يجمع كل ذراري ابناء عمومتي وكانه كتب في قدرنا ان لا نجتمع الا هناك، 

كان عددنا كبيرا وضجيجنا اكثر واكبر واقوى ولا اعرف كيف يتحملون كل ذلك ولو نسيت فلا يمكن نسيان فترة حضور الغداء وخصوصا اذا كان “خصاص” (خبز يعد تقليديا ويتميز بالرقة الشديدة وقريتي مشهورة به في جهتنا)، في لحظات يمسح الصحن مسحا، يوضع في الوسط صحنا كبيرا من المرق ونتحلق حوله لندخل في حرب ضروس تختم بفناء المرق والخبز في وقت قياسي، ما يكفي دار عبيد اياما يرحل في ثواني معدودة.
في مرات كثيرة تغضب كبيرة المنزل رحمها الله وتصيح فينا “هيا سيدي, كل واحد يروح لاهله, ويزينا من الهم اب اب اب “(ترجمتها للفصحى: هيا، كل طفل يعود الى اهله ويكفينا من الهم والمعاناة)، عادي جدا، نتفرق جميعا وبسرعة ومن الغد نكون كلنا هناك في “حوش دار عبيد”.
حوش دار عبيد هو من ربانا في صغرنا رغم هرجنا وضجيجنا وكثرتنا، فقد كان لذلك المنزل محبة خاصة وغريبة امتلكتنا صغارا، في احيان كثيرة كان رجل المنزل “عمي عامر” الله يرحمه يستشيط غضبا ويبدأ يجري خلفنا صائحا “كل واحد يمشي لباباه، الناس تجيب وعامر يربي” (كل طفل يذهب لابيه، الخلق تنجب وعامر هو الوحيد من يربي)، والنهاية صاح او اطرد كل يوم نفس الحكاية، من الغد نكون جميعا هناك.
كان “حوش دار عبيد” يضم اسرتين، واطفال الاسرتين يملؤون المنزل، فما بالك وقد زاد العدد بكل ابناء عمومتي، ولك تخيل الضوضاء الرهيبة التي يخلقها تواجدنا مع بعضنا هناك واتذكر مرة سيدة فرنسية كاد يغمى عليها عندما شاهدت كل ذلك العدد ظنا منها اننا كلنا نتبع اسرة واحدة …
اجمل ما احب في حوش دار عبيد سقيفة “قبلية”(مطبخ او غرفة صغيرة تصنع من خشب النخيل وسقفها مكون من جريد النخل ايضا مخلوطا بالطين وتستعمل خصوصا لاشعال النار في ايام وليالي الشتاء وهي متجهة الى القبلة ولذلك نقول قبلية) وتظهر هذه السقيفة واضحة جدا في الصورة المصاحبة.
حوش دار عبيد حاز كل الحب وجمع الكل ولم اعرف سر حبنا الرهيب لذلك المنزل ونحن صغارا، المؤلم في الحكاية كلها أننا نسينا “حوش دار عبيد” عندما كبرنا واصبحنا نزوره مرة في عيد الفطر ومرة ثانية في عيد الاضحى، وقد قالتها مرة كبيرة المنزل “لم يثمر فيكم شيئا من كبر فيكم هرب … “، فبعد ان كبرنا وتزوج من تزوج وتوفي كبار المنزل نقص حوش دار عبيد حتى لم يعد سوى ذكرى نتذكرها احيانا، فيا من تحملتمونا صغارا رغم كثرتنا وصبرتم علينا رغم ضجيجنا، ربي يجازيكم بكل الخير ويجعل الجنة مثواكم فقد احببناكم كثيرا رغم اننا لم نعبر لكم عن ذلك، 
الله يرحم من رعانا صغارا في ذلك الحوش الطيب … حوش دار عبيد

****
الصورة تحتوي على محدثكم صحبة ابناء عمومتي  ولي من العمر 10 سنوات … الموجود في اليسار ههه

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.