ذكريات رجل من الجيل الذهبي

سأتحدث هذه المرة عن أحد أفراد “الجيل الذهبي”، يوصف جيلي والاجيال السابقة بالاجيال الذهبية، لهذه التسمية أسباب عديدة افسرها بشكل مغاير لما يراه الاغلبية ممن ينتمي لهذه الأجيال، فأنا للأسف لا أرى جيلي جيلا ذهبيا ولا أرى الأجيال السابقة ذهبية ولا فضية ايضا وليست نحاسية بل يمكن تكون اجيالا حديدية غلفها الصديد كليا ولكن هذا ليس موضوعي الان، موضوعي هي مذكرات “واحد” من هذه الاجيال او بالاحرى فترة زمنية قصيرة منها، كنت في ما مضى آلة قراءة لا تمل ولا تكل، لا أضيع حتى ورقة جريدة يتقاذفها الريح، حاليا استغرب كيف كنت، قرأت كتبا لو وضعت في شاحنة كبيرة لما احتوتها ويمكن نضيف شاحنة اخرى للمساعدة، درست كل ما وصل تحت يدي، درست الماركسية من لينينها الى تروتسكيها الى أنور خوجتها في ألبانيا، كم كنت غبيا واحمقا فعلا وقتها فقد كان يعجبني انور خوجا بشكل كبير، درست القومية من عفلقها الى كل كتب د عصمت سيف الدولة، وسبحت شهورا طويلة مع أجزاء نظرية الثورة العربية لأعرف هل أنا فعلا موجود ضمن هذه الامة ام لا؟، أردت أن أعرف كيف يفكر قائد ليبيا فدرست الكتاب الأخضر بكل أجزائه من خلال طبعة انيقة جدا وصلتني، غطست سنينا في رفوف الأسلامين بين مادحهم وناقدهم، اذكر أني اعدت مرارا وتكرارا في سنوات الثانوي الاولى قراءة قصة “ايام من حياتي” لزينب الغزالي ولم اصدق حرفا واحدا منها رغم صغري وقتها ولكن اضافت لي شيئا جديدا لدماغي وهو ان حتى “الاسلاميون يكذبون” فقد كنت اظنهم فعلا لا يكذبون، حتى اليسار الاسلامي او الاسلام التقدمي كما يوصف طالعت كتبه وتابعت مطولا مجلة 15 – 21 رغم عدم معرفتي لابسط سؤال يمكن ان اطرحه على نفسي وقتها: لماذا اسمها 15-21 ؟ ، درست شهورا الديانة المسيحية عن طريق المراسلة بمدرسة تبشيرية ولم يملوا ولم يكلوا في دعوتي دائما للإيمان باليسوع مخلصا لي وأنه مات على الصليب لأجلي، وجدت طريقتهم غبية جدا في تحويل المسلم للمسيحية وعرفت بعد معاشرتي طويلا لهم أن كل مسلم تحول للمسيحية ليس له الا شكلا واحدا من ثلاثة أشكال: إما كذبا اعلاميا أي أن الخبر ليس صحيحا إطلاقا، أو طامعا في شيء ما، فيزا أو مالا أو أشياء أخرى تتطلب التحايل، او ليس مسلما أصلا فلا “الكتاب المقدس” ولا الدروس ولا الكتب الدينية تلك كفيلة بأن تخرج مسلما عاديا جدا من الاسلام الى المسيحية، كنت أحس بتوسلات من يراسلني بين السطور وهو يطمح لتخليصي كبشر تعيس من الدينونة، وانقطعت دراستي للاسف بعد أن تشبثوا بالسؤال الجوهري لديهم: هل تؤمن باليسوع مخلصا لك؟ اجبتهم اجابة المسلم فاعادوا نفس الامتحان مع نفس السؤال وكاني لم أقل شيئا وكأنهم لم يسمعوا شيئا أيضا، لم يفهموا أبدا أنني أبتغي دراسة دينهم وليس الايمان به، كانت درجات ونجاحات وأعداد منخفضة واعداد مرتفعة مثلها مثل المدارس الحقيقية، كان الامتحان يصلني وهنالك استاذ يصلح ويعيد الامتحان الي مرة اخرى وهكذا، واستغربت كثيرا وقتها من نظام يسمح بمرور كل ما يصلني من دروس وكتب وأشرطة كاسيت وكانت تصلني دائما مفتوحة، كان النظام وقتها لا يهتم بحكاية التبشير المسيحي بل بت الان متأكدا أنه كان يشجعها والا لما وصلني شيء مما كان يصلني وبشكل منظم، كانت الكتب والمجلات واشرطة الكاسات تصلني من اماكن متفرقة:فرنسا، هولندا، لبنان، امريكا وووو ، الا الدروس والامتحانات فكانت تاتي من عنوان واحد بموناكو، وفي قمة تطرفي المطالعاتي درست اليوجا ومارستها حتى حذقتها وبدأت أنظر لها في وسطي، قبل كل هذا الانتشار المعلوماتي عنها، وقبل خروج عشرات المدارس التي تدرسها والتي تعد الشعب الكريم أنها الدواء الفعال لكل داء، والعرب ينسخون ويلصقون ما يجدون عنها ويرفعون كتب تعليمها بالمئات وهم يبتغون الأجر من الله الواحد الأحد، وبعد كل تعلمي لها أكتشفت متأخرا أنها ليست رياضة ولكنها فكرة وثنية جملوها لنا وسوقوها لنا كعلم ورياضة وفي حقيقتها ليست سوى بلوى تدخلك باب الكفر من أوسع أبوابه بعد أن ترمي المفتاح في البئر المظلم وانت تظن أنك ارتقيت روحيا واتحدت بالحقيقة العظمى، وعرفت أن حديثا نبويا واحدا من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يقلب كل اساسات اليوجا ويرميها في الحضيض، دراستي لليوجا جرتني لدراسة افكار الشرق القديمة المرتبطة بها كعلم الالوان وطاقة المكان والريكي والوخز بالابر لاجدها كلها شطحات متخلفة ما انزل الله بها من سلطان وصدروها لنا ونحن نطبل لها كعلوم نافعة لخلق الله فحتى ساسوكي وناروتو وسيف النار كأنمي كرتوني يشاهده اطفالنا يحتوي كل المعتقدات الدينية المتخلفة لمعابدهم حيث ظهرت اليوجا واخواتها، عندما كبرت اعدت مشاهدة ناروتو وساسوكي وسيف النار لاصل لنتيجة خلاصتها انهم يصدرون لنا معتقداتهم الدينية واطفالنا ملتصقين بالتلفاز وبتشجيع منا أيضا، تعلمت الاعلامية بالمراسلة دون حاسوب، هل يعقل هذا، ولكنه وقع معي للاسف، قطعت شوطا في تعلم الايطالية وانقطعت بانقطاع التقاطي للــ”راي اونو” لدينا وقتها، قرات كثيرا عن الهندوسية والبوذية وتتيعت حياة بوذا منذ أن كان أميرا شابا يرفل في الحرير حتى سياحته في أرض الله الواسعة وكم أعجبتني شخصيته وقتها وشبهت قصته طويلا بالسلطان ابراهيم ابن الادهم الذي ترك الحكم ليسيح في ارض الله هو ايضا ، كم أعجبني تفكير د مريم نور وكم بقيت أسرح عبر كتبها مشدوها بغزارة علم هذه السيدة الرائعة واكتشفت متأخرا أيضا أنها تبيع وهما صدقت هي ونحن بعدها أنه حقيقة مؤكدة، وكم وكم و…. عشرات الاهتمامات الأخرى، كانت دراساتي بالمئات وكتبي بالمئات أيضا وأمام بطالتي بعد ان غادرت الجامعة ومعاشرتي في عمل يومي لصاحب عربة تقليدية بـ”بغل” ابيض وانغماسي سعيدا في كثبان الرمل بقريتي تخلصت من كنزي الكبير وأنا مشفق على هواة المطالعة تلك من بعدي، جمعت كل ما عرفت طيلة هذه الرحلة الطويلة في وعاء سميك ورميته قدر استطاعتي في عرض بحر النسيان وآليت على نفسي أن لا أدخل حتى في نقاش حول هذه المواضيع ومنذ ان عرضت تجربتي مع اليوجا توقفت نهائيا عن نقاش كل ذلك فهو مضيعة للوقت ليس الا بل وجدت بالشبكة دورة نقدية لليوجا نشرتها منذ سنوات تبناها كاتب وفتح باب الحوار ليقدم للقراء خور اليوجا ومثيلاتها ولم اعلق ولم اتواصل معه فتلك مواضيع مللتها بصدق وعمق ايضا، عندما خرجت من “برميل” النظريات الفكرية وجدت تربية 5 دجاجات أنفع لي وللبلد وللعالم وللاسلام ولكل العالم من كل ما درست، دجاجة واحدة تنتج بيضة واحدة وتتقدم بواحد على مليون ملمترا باقتصاد البلد أهم من دراسة الماركسية والقومية واليوجا وقانون الجذب و نظرية الثورة العربية وعلم الالوان والثورة الثقافية الصينية وتجربة انور خوجا وعلوم الطاقة وكل البلاوي التي ضيعت سنينا من عمري هباء منثورا، وجدت تربية معزاة واحدة أهم من كل ما كتبه ميشال عفلق وكل ما كتبه الدكتور عصمت سيف الدولة رحمه الله طيلة حياته، وأهم من كل ما كتبه المنادون بحرية المرأة من قاسم أمينها الى الطاهر حدادها، ومن كل ما كتبه الشعراء حرهم وعبدهم، خمس من الماعز أنتجت لي في سنة 11 جديا بعتهم في سوق جهتي وساهمت – دون أن أدري وقتها – في دفع عجلة الاقتصاد ببلدي واكتشفت أن عدد القطيع تجاوز العشرين من الإناث المنتجة بعد سنتين أما مطالعات عشرات الكتب النظرية فجعلتني أحس أن دماغي “يوزن بلد” وأنا أحتار في شراء حذاء جديد، عندما تحولت من كل دراساتي النظرية لاعوضها بتعلم تربية الماعز الحلوب وتعلم تربية الدجاج البلدي وتعلم صناعة الجبن والزبدة من الحليب وانتاج عشرات المواضيع العلمية والتجارب المسلية وانشرها مجانا لصالح أطفال هذه الامة ، حتى تربيتي للخنافس وانتاج اليرقات تطبيقا لتجربة علمية نجهلها كبارا وصغارا كانت اكثر فائدة الف مرة من كل ما قرات سابقا، عندما نشرت تجربتي كأب صحبة اطفاله وكيف يمكن بتطبيقات منزلية بسيطة جعل اطفال اي اسرة على القمة دراسيا بدون ساعات دعم ودون كتب موازية ودون اعصاب محروقة وهي تجربة موجهة لفقراء هذه الامة ممن يحسون ان التفوق من نصيب الاغنياء فقط، عندما غيرت دفة الاهتمام وجدت ولمست الفائدة التي اضفتها لخلق الله البسطاء مثلي، طيلة شبابي كنت اطمح لجعل العالم مكانا أفضلا وفق ما كنت أعتقد لأصل أن ما اهتممت به سنينا جعل عالمي أكثر اتساخا وأشد ضررا وأن المبدأ الذي أؤمن به في جعل العالم مكانا أفضلا نصله بهذا، بتغيير أبسط نقطة نقف عليها أما الحلم بتغيير حال البلد بنظريات نؤمن بها فذلك حلم بليد زاد من خراب البلد، الوقت مر سريعا وتغير واقع الحال وواقع المطالعة وواقع تفكيرنا ايضا والتغير اصبح واقعا مطلوبا منا جميعا، السراويل الممزقة والهابطة والشعر المقلوب كريش الغراب، كلها لم تعد “موضة” فهي اصبحت واقعا امامنا سواء قبلنا او لم نقبل وحتى لو لم نقبل فصدى اصواتنا ذاب كذواتنا في الزحام.

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.